الشَّمعة الثانية والغابة الدولية

الشَّمعة الثانية والغابة الدولية

الشَّمعة الثانية والغابة الدولية

 صوت الإمارات -

الشَّمعة الثانية والغابة الدولية

بقلم:غسان شربل

علَّمنا أساتذة المهنة أنْ لا نسقطَ تحت وطأة الحدث. أن لا ننزلقَ إلى استنتاجات نهائية متسرعة. وأن نضعَ المشهد في سياق التاريخ والجغرافيا معاً. وأن نلتفتَ إلى الروح العميقة في مسارح الأحداث وترسانة الكراهيات وجاذبية الثأر. وهكذا تدربنا على الشعور بشيء من القلق أمام الانقلابات والزلازل.

كنت في عداد وفدٍ صحافي بعيد اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية. شاهدت في الجانب الإيراني من الحدود جنديين عراقيين يخرجان عجوزاً إيرانياً «إلى مكان آمن» بعدما كانَ مختبئاً في منزله. بدت على وجهِ العجوز أماراتُ الخوف والذل فهاجمني سؤالٌ عن حجم الثأر الذي ستنفذه إيران حين يُتاح لها ذلك. وشاهدَ العالمُ بعد عقود الجنرال قاسم سليماني يرقصُ مع الميليشيات العراقية بعد انسحابِ القوات الأميركية التي اقتلعت نظامَ صدام حسين.

وكان القلق زارني أيضاً حين أطبق الجيش الأميركي على نظام صدام استناداً إلى روايات عن علاقات بتنظيم «القاعدة» وبرامج الأسلحة البيولوجية الجوالة. بعض الانتصارات يحمل في طياتِه وعودَ انهياره أو تعثره، خصوصاً حين يعجز صاحب القوة الهائلة عن فهم ما يدور في شرايين مسرح انتصاره. زارني القلق أيضاً حين كنت خارجاً من لقاء مع مسؤول سوري وتلقيت على هاتفي رسالة تفيد باغتيال رفيق الحريري في بيروت.

ساورني القلق أيضاً حين ذهبت من «الشرق الأوسط» لأعاينَ تداعي جدار برلين. لم يكن سراً أنَّ الجدارَ حدود دولة وحدود إمبراطورية. وأنَّه ليس من عادة الإمبراطوريات أن تغيبَ من دون ولائم دموية وإن تأخرت. ولم أعرف يومها أنَّ ضابطاً صغيراً في الـ«كي جي بي» سارع إلى إتلافِ وثائقه قرب الجدار وفرَّ عائداً إلى العمق الروسي. وكان اسم الضابط فلاديمير بوتين.

تذكَّرت دروس الأساتذة حين مشيت في شارع أربات في موسكو المقيمة تحت قبعة بوريس يلتسين. كان مشهدُ بزاتِ ضباط «الجيش الأحمر» المعروضة مع أوسمتها بحفنة من الدولارات قاسياً وفظيعاً. التاريخ أستاذٌ صارم. تحكُّ روسيا جروحَها تحت الثلج ثم تنهض لإضرام حريقٍ كبير. وهذا ما حدث.

بعد أيامٍ سيطفئ بوتين الشمعة الثانية لـ«العملية العسكرية الخاصة» التي أطلقها في 24 فبراير (شباط) 2022 لتصحيح التاريخ والجغرافيا معاً. أرسل «الجيشَ الأحمر» لمطاردة «النازيين» على أرض أوكرانيا التي أكَّد أنَّها دولة ما كانت لتوجد لولا خطأ ارتكبه ستالين.

بعد ذهاب المستشارين سيحتفل وحيداً. دائماً القيصر واحد ووحيد. سيطلق ابتسامتَه الساخرة المسنونة. أمر زيلينسكي قواتِه بالانسحاب من مدينة أفدييفكا أمام القوات الروسية بعدما تأخرت المساعدات والذخائر بسبب «الحروب» الدائرة في أروقة الكونغرس الأميركي. ذكَّرني موقف زيلينسكي بما قاله الرئيس المصري الراحل حسني مبارك لوزير الخارجية العراقي السابق هوشيار زيباري ومفاده أنَّ «المتغطي بالأميركان عريان». العبارة نفسها يمكن أن يقولَها بوتين لزيلينسكي.

من حق بوتين أن يسخر. لم يسلم قادة الغرب بأنَّه لا يستطيع أن يخسر. وأنَّه ذهب إلى أوكرانيا ليعاقبَ الغرب بكامله. ولإطلاق انقلاب كبير على العالم الذي ولد من انهيار الجدار وتواري الاتحاد السوفياتي. أغلب الظن أنَّه سيسخر أيضاً من «الرفاق» الذين بكّروا في الاستسلام وسهّلوا لبلدانهم القفزَ من القطار السوفياتي. ومن الذين رقصوا ابتهاجاً بالانتماء إلى فردوس «الناتو» واندرجوا في العصر الأميركي.

من حقه أن يسخرَ من الذين سارعوا غداة غزو قواتِه الأراضي الأوكرانية إلى الاعتقاد بأنَّه ارتكب غلطةَ عمره. وأنَّ انتكاسته قرب كييف ستدفعه إلى القبول بصيغة لإنقاذ ماء الوجه. ومن الذين تقاطروا إلى العاصمة الأوكرانية معتبرين أنَّ الوقت حان لتأديب الرجل الجالس على عرش ستالين. من حقه أن يسخرَ أيضاً من الذين طوّقوا روسيا بالثورات الملونة وخبراء «الناتو» وها هم اليوم يكتشفون أنَّه يتقدم لمحاصرتهم عبر التلاعب بحدود الخريطة الأوكرانية.

ومن حقه أن يحتفلَ لأنَّه بدا أستاذاً في الالتفاف على عقوبات الغرب. وفي كتم عدد الضحايا الروس عن شعبه. ولأنَّ أداء اقتصاده فاق توقعات الخبراء. ولأنَّ قدرته على إنتاج الذخائر تفوق بكثير قدرة القارة الهرمة التي يأكلها الخوف من احتمال عودة دونالد ترمب إلى المكتب البيضاوي. ولا ضير أن يستعينَ سيد الكرملين ببعض منتوجات ترسانة وريث كيم إيل سونغ أو بمسيّرات من بلاد ورثة الخميني. مهمتك الوحيدة في الحرب أن تنتصرَ فيها. وظّف ببراعة امتلاك بلاده ترسانةً نوويةً هائلة لردع الغرب عن ارتكاب مغامرة الانتصار عليه. الترسانة النووية مفيدةٌ من دون استخدامها. وهذه الرسالة شديدة الخطورة على مستقبل العالم.

يتجسَّسُ الصحافي على نبض العالم ويرفع تقاريره إلى القراء. هل نبالغ إذا قلنا إنَّ العالم يجتاز منعطفاً شديد الخطورة؟ كيف نطمئن إلى عالم يتعايش شهوراً مع هذه المذبحة المروعة في غزة ويعجز عن لجم آلة القتل الإسرائيلية أو يتردَّد في لجمها؟ ثم إنَّ هشاشةَ الشرق الأوسط لا تحتاج إلى دليل. لا وجود لشرطي دولي يضمن حرية الملاحة في البحر الأحمر. ولا تمتلك الشرعية الدولية القدرة على لجم الصواريخ الهائمة والمسيرات المسافرة في اتجاهات كثيرة. الانقلاب الروسي عبر أوكرانيا يرافقه انقلاب أيضاً يقوده الزعيم الكوري الشمالي قرب براميل البارود الآسيوية. ثم إذا سلم العالمُ لبوتين بحق إعادةِ رسم الخريطة الأوكرانية، كيف يرفض حق الصين في استعادة تايوان وهي من باب «إعادة الفرع إلى الأصل»؟ أزمةُ غزة أظهرت أيضاً حجمَ الانقلاب الإيراني في الشرق الأوسط. تشاغل إيران أميركا وإسرائيل عبر أربع خرائط عربية.

من حق بوتين أن يحتفلَ. ولكن ليتَه يقلق قليلاً. أدخل بلادَه في سباقِ تسلح رهيب مع الغرب الذي يواصل زيادة ميزانياته الدفاعية. على سيد الكرملين وهو سيد الصواريخ الالتفاتُ قليلاً إلى أنَّ قدرات الغربِ هائلةٌ خصوصاً التكنولوجية منها. وأنَّ الاتحادَ السوفياتي لم يُقتل في الحرب بل في معركةِ النموذج والازدهار.

من حق بوتين أن يحتفلَ. جاء زعيم «فاغنر» وذهب. وجاء ألكسي نافالني وذهب. ولروسيا ذاكرة تنسى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشَّمعة الثانية والغابة الدولية الشَّمعة الثانية والغابة الدولية



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة - صوت الإمارات
ظهرت الفنانة إلهام شاهين في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، وهي مرتدية فستانا أزرق طويلا مُزينا بالنقوش الفرعونية ذات اللون الذهبي.وكشفت إلهام تفاصيل إطلالتها، من خلال منشور عبر حسابها بموقع التواصل "فيسبوك"، إذ قالت: "العالم كله ينبهر بالحضارة الفرعونية المليئة بالفنون.. وها هي مصممة الأزياء الأسترالية كاميلا". وتابعت: "تستوحى كل أزيائها هذا العام من الرسومات الفرعونية.. وأقول لها برافو.. ولأن كثيرين سألوني عن فستاني في حفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.. أقول لهم شاهدوه في عرض أزياء camilla". يذكر أن فستان الفنانة المصرية هو نفس فستان الكاهنة "كاروماما" كاهنة المعبود (آمون)، كانت الكاهنة كاروماما بمثابة زوجة عذراء ودنيوية للمعبود آمون. وهي ابنة الملك (أوسركون الثاني) الذي حكم مصر خلال الأسرة الـ 22...المزيد

GMT 21:53 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

شرطة دبي تسلط الضوء على استشراف مستقبل المناطق السكانية
 صوت الإمارات - شرطة دبي تسلط الضوء على استشراف مستقبل المناطق السكانية

GMT 21:34 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
 صوت الإمارات - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 11:36 2018 الأحد ,14 كانون الثاني / يناير

فندق النحل في لندن أغرب مناطق العالم وأكثرها لمعانًا

GMT 05:26 2018 الخميس ,28 حزيران / يونيو

عالم بريطاني يكشف أنّ "الوقواق" طائر مخادع وذكيّ

GMT 08:32 2018 الخميس ,04 كانون الثاني / يناير

هيونداي تكشف عن سيارتها "H1 2018" بتحديثات جديدة

GMT 17:31 2016 الجمعة ,04 آذار/ مارس

بلوزة الغرب الأميركي تعود بقوة

GMT 23:56 2016 السبت ,25 حزيران / يونيو

الكنافة "حلويات شامية"

GMT 05:26 2019 السبت ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

يوفيتش خارج قائمة ريال مدريد لمواجهة إيبار

GMT 22:56 2015 السبت ,04 تموز / يوليو

تسريب صورة جديدة للهاتف "غالاكسي A8"

GMT 09:15 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

القطيفة والتريكو نجوم موضة 2016

GMT 08:44 2015 السبت ,10 كانون الثاني / يناير

"بيفرلي هيلز" تكشف النقاب عن مفاجأة جديدة لعملائها

GMT 08:49 2013 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

طرد بريدي يثير الذعر في مبنى السفارة الأميركية في قيرغيريا

GMT 17:18 2013 السبت ,27 إبريل / نيسان

نماذج إسلامية معاصرة بإبداع الإسكندرية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates