بقلم:حازم صاغية
ة الميليشيات عن الأوضاع والتناقضات السائدة تغدو هي الرواية السائدة، الشرعيّة والوطنيّة، فيما يغدو سواها مروقاً وخيانةً وشذوذاً.
وثمّة امتياز آخر، يتأتّى عن موقف العالم الخارجيّ، وإن كان يصلنا في صورة هي على قدر من المواربة: فنحن نعلم جيّداً أنّ الفلسطينيّين، ومعهم اللبنانيّون والسوريّون، يعانون إفلات إسرائيل من العقاب والمحاسبة، وكون قيادتها السياسيّة والعسكريّة تفعل ما تراه مناسباً لها ولأمن مجتمعها ودولتها. لكنّ النظام الميليشيويّ في المشرق العربيّ يشاطرها الإفلات من الحساب والعقاب، وهذا علماً بأنّ ارتكابات الدولة العبريّة لا تطال شعبها نفسه، فيما ارتكابات أنظمتنا الميليشيويّة، لا سيّما السوريّ منها، تنصبّ على شعوبها أساساً. وامتياز كهذا، حوّلت حرب غزّة الأنظار عنه، إنّما يبثّ في سكّان المشرق شعوراً يتداخل فيه العبث والاستحالة، مفاده الوقوف في مواجهة أمر واقع ونهائيّ بالغ البأس والقوّة والإحكام.
وإنّما عن منظومة الامتيازات الراسخة هذه، وعن نظامها، تنشأ الهشاشة المجتمعيّة التي تحمل على توقّع «الفتنة» بين «الأخوة»، بل تجعلها أمراً يكاد يلازم الحياة ذاتها. أمّا أن يكون الصاروخ الذي هبط على مدرسة مجدل شمس مقصوداً أو غير مقصود، هادفاً أو ضالاًّ طريقه، فيغدو أمراً تفصيليّاً بقياس نظام قائم على وعي وسلوك صاروخيّين.
ولن يلزمنا الكثير من إعمال الخيال كي نتخيّل مناطق المشرق العربيّ، أو طوائفه، تتبادل الصواريخ في ما بينها، وهو ما قد يُتحفنا به، في أيّة لحظة، لبنان أو سوريّا أو العراق. وهذا علماً بأنّ عدم الفعل الصاروخيّ، تبعاً لمحدوديّة القدرات، لا يلغي النيّة في الفعل، والنوايا معبّاة وذات جهوزيّة رفيعة.
فإذا كانت مجزرة مجدل شمس من ذيول حرب قائمة، فلنراجع أحوال الأمكنة التي يُفترض أنّها تخلو من الحروب: ماذا يحدث غداً لو انطلق من أيّة منطقة أو طائفة في المشرق صاروخ يستهدف طائفة منطقة أو طائفة أخريين؟ في أغلب الظنّ لن يحدث شيء، باستثناء استدراج مزيد من الصواريخ في حال توافر الطرف المقصوف عليها.
ولا يعود مهمّاً، والحال هذه، وجود حرب في المنطقة يصفها البعض بالمصيريّة وغير ذلك من أوصاف، إذ الوضع «الطبيعيّ» في المنطقة كلّها هو هذا، وإن تقدّم بعضها على بعض في هذا الظرف الزمنيّ أو ذاك. وبدل أن تتّحد طاقات «الأمّة» المزعومة في الحرب المصيريّة، على ما تحضّ الدعوات النضاليّة، فإنّ جنون الحرب هو الذي يتمدّد في «الأمّة» المزعومة إيّاها فيزيدها تفتيتاً واحتراباً. وإذا بنا كلّما «حصّنّا» الجبهة «ضدّ العدوّ» زدناها انثقاباً في ما بيننا.
فما يفعله النظام المليشيويّ هو بالضبط دفعُنا إلى حالة الطبيعة الهوبزيّة حيث «حرب الكلّ على الكلّ»، فيما حياة السكّان تغدو «منعزلة وفقيرة ولعينة ووحشيّة وقصيرة».
والفتنة، لغةً، تحمل معنى آخر غير الذي نخشاه ونحذّر منه. فهي أيضاً الجمال الباهر الذي يخلب الألباب، كما تقول القواميس. ولربّما ظنّ أصحاب النظام الميليشيويّ أنّ المعنيين مترادفان، أو أنّ واحدهما لا يكتمل دون الآخر.