بقلم - حازم صاغية
فيما كان اللبنانيون مسمّرين إلى التلفزيونات، يتابعون مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وذيول الحادث المزدوج، مرّ على الشاشة خبر يقول: «طائرات إسرائيليّة تحلّق على علو منخفض فوق صيدا والجنوب». بدأ واضحاً أنّ الإسرائيليين ما إن التقطوا الخبر، وسمعوا الدعوات إلى الردّ والثأر، حتّى راحوا يستعدّون. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قطع رحلته المقرّرة إلى اليونان، وعاد إلى إسرائيل. وزير الدفاع نافتالي بنّيت دعا إلى اجتماع طارئ لكبار قادته، وأعلن أنّه سوف يلتقي رئيس الأركان أفيف كوشافي، وأبرز المسؤولين الأمنيين في المقرّ العسكري بتلّ أبيب. الحديث عن أوضاع الجبهة الشماليّة واستعداداتها عاد إلى الصدارة.
واضحٌ أنّ دخول إسرائيل على الخطّ ليس خبراً سارّاً. إنّه يستعيد صورة ذاك الكابوس عن حرب إيرانيّة - إسرائيليّة فوق رؤوس أهل المشرق العربيّ. الذين يكرهون النظام الإيراني وسلوكه يعرفون أنّ ما تفعله إسرائيل لن يكون لصالحهم، وأنّها لا تفعل إلاّ ما هو لغير صالحهم. الموت والخراب هما الأفق الأوحد في المنطقة، خصوصاً في العراق المعذّب.
لكنّ ما هو أسوأ من تدخّل إسرائيل في لبنان أن تكون هناك نيّة لاستدعاء إسرائيل إلى التدخّل. أموس هارِل، المعلّق في «هآرتس» المعارضة لنتنياهو، يكتب أنّ لدى دولته «كلّ الأسباب كي تبقى خارج النزاع المتنامي، مع أنّ النظام في طهران سيحاول إقحام إسرائيل بسبب حقده الآيديولوجي علينا».
على أنّ استدعاء الدولة العبريّة عبر «ردّ إيرانيّ» من لبنان سيكون أقرب إلى عمل انتحاريّ، عملٍ يؤذي اللبنانيين عموماً، ويؤذي خصوصاً «حزب الله» وبيئته. لهذا، وبعيداً عن خطابة الخطباء المتحمّسين، حرص الأمين العام للحزب في بيانه على ألا يتعهد بشيء محدّد. قال «إن القصاص العادل من قتلته المجرمين الذين هم أسوأ أشرار هذا العالم سيكون مسؤولية وأمانة وفعل كل المقاومين والمجاهدين على امتداد العالم». وكلمة «كلّ»، تعني الجميع، إلاّ أنّها قد لا تعني أحداً. بمعنى ومنطق مشابهين على الأرجح، رأى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي يعرف ضيق الخيارات المتاحة، أنّ «الرد على الجريمة سيشمل المنطقة بأسرها، وسيكون ثقيلاً ومؤلماً».
إذن بين سوابق عدم الردّ الإيراني على الضربات الإسرائيليّة الكثيرة في سوريا، وولع طهران بالحروب التي تُشنّ بالوكالة، يمكن التذكير ببعض المعطيات اللبنانيّة المعروفة:
أوّلاً، إنّ الحرب مهمّة مكلفة ماليّاً، وإيران التي يُفترض بها أن تموّل الحرب بلد مفلس، فضلاً عن تصدّعه الداخلي الذي لا يكفي مقتل سليماني لرأبه.
ثانياً، وفي اختلاف نوعي عن حرب 2006، لن تكون هناك أموال عربيّة لما بعد الحرب، كما لن تكون الدولة اللبنانيّة المفلسة قادرة على الإعانة.
ثالثاً، وبسبب سلوك «حزب الله»، لا سيّما منذ 2008، لن يكون هناك استقبال أهلي يُعوَّل عليه للضحايا المدنيين الذين قد تهجّرهم شمالاً حرب إسرائيليّة أخرى.
رابعاً، وهو ما يصحّ بنسبة أعلى في العراق، سيتبدّى أي مزاج حربي مزاجاً مضادّاً للثورة على نحو لا لبس فيه. المحاربون سيظهرون في هيئة من لا يريد للبنان والعراق إلاّ أن يكونا ساحتي حرب. مزاعمهم التي تداولوها في الأسابيع الماضية عن صلة الثورتين العراقيّة واللبنانيّة بـ«السفارات والأميركيين» قد تتحوّل تبريراً صريحاً لإجراءات قمعيّة.
إلى ذلك، لا بدّ في المحارب، أي محارب، أن يأخذ في حسابه حسابات الخصم واعتباراته.
فنتنياهو الذي لا تنقصه الرغبة أو الشهيّة لإيذاء إيران و«حزب الله»، يواجه انتخابات عامّة شديدة التعقيد، أحد عناوينها مستقبله وسمعته الشخصيّان. أمّا دونالد ترمب، الذي سيلتحم بإسرائيل تلقائيّاً، فتنتظره أيضاً انتخابات يريد قبلها إثبات أنّ قتل قاسم سليماني، بعد أبو بكر البغدادي، يعادل قتل باراك أوباما لأسامة بن لادن في 2011، علماً بأنّ الأخير كان مهزوماً ومختبئاً عندما قُتل، فيما كان سليماني يتجوّل منتصراً بين عواصم الإمبراطوريّة.
هذا لا يعني أنّ رغبات نتنياهو وترمب هي بالضرورة قدر لا يُردّ. لكنّ إحباط تلك الرغبات يتطلّب قوّة إيرانيّة غير متوفّرة، لا اقتصادياً ولا عسكرياً. صحيح أنّ هذه القوّة تستطيع تنفيذ أعمال إرهابيّة متفرّقة هنا وهناك، كقتل أو خطف أميركيين، وقصف ناقلات نفط، لكنّ تلك الأعمال نفسها قد تغدو، في ظلّ المواجهة المباشرة مع واشنطن، سيفاً ذا حدّين.
لهذا يُستحسن ألا يموت أحدٌ فدى النظام الإيرانيّ؛ خصوصاً أنّها حرب يستحيل فيها الانتصار. فطهران، ردّت أم لم تردّ، فقدت الكثير من مصادر قوّتها، وربّما كان الحدث الأخير مدخلها لأن تفقد، تدريجاً وبشيء من التعرّج، ما تبقّى من تلك المصادر. أمّا لبنان تحديداً فكلّما خفّت اندفاعة بعض أطرافه لتلك المواجهة، كائناً ما كان حجمها، خفّت كلفة الألم والخراب اللذين قد يعقبان ذلك.