التطبيع والقضية وبعض المسائل المسكوت عنها

التطبيع والقضية وبعض المسائل المسكوت عنها

التطبيع والقضية وبعض المسائل المسكوت عنها

 صوت الإمارات -

التطبيع والقضية وبعض المسائل المسكوت عنها

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

في ردود الفعل التي شجبت عمليات التطبيع العربية الأخيرة مع إسرائيل، ثمة شيء غائب في المكتوب، ولو كان حاضراً في المحكي: إنه الحاجات الحيوية لدى هذه الدول التي تطبع. قليلون جداً من استوقفهم أن لدى هذه الدول وشعوبها، هي الأخرى، قضاياها.

خطر إيران وميلها التوسعي، واستعادة المغرب ما يعتبره وحدته الترابية، ورفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وما ينجر اقتصادياً عن ذلك، ليست عناوين بسيطة. حتى لبنان الذي لم يطبع، وجد من يفسر مفاوضاته المباشرة مع الإسرائيليين حول ترسيم الحدود بحاجته إلى استخراج نفطه.
وما دام أن «العرب» دول ومجتمعات ومصالح، سيكون صعباً تجاهل تلك المسائل والهموم، أو اختصارها في رغبة هذه الفئة الحاكمة أو تلك، أو مطالبة أصحابها بالتضحية بها وفاءً بـ«التزام قومي» لم يعد يعني الكثير لأحد.
هناك بين مناهضي التطبيع من قال إنه يسهل قمع الأنظمة للشعوب. لكنْ ماذا يقال، والحال هذه، حين تكون أشد الأنظمة قمعاً لشعوبها، وفتكاً بالفلسطينيين أنفسهم، هي الأكثر تشدقاً بمقاتلة إسرائيل ومحاربة التطبيع؟ إذن الحجة هذه حمالة أوجه، والمسألة قابلة للاشتغال في اتجاهات شتى بتطبيع أو من دونه.
المرارة الفلسطينية مفهومة تماماً، خصوصاً أن الاستيطان وقضم الأراضي وانكماش خيار الدولتين تمضي في خنق الحق الذي لا يُمارى فيه. يزيد في المرارة ويمزجها بالخديعة تاريخ من الشعارات العربية التي تعددت عناوينها: «قضية العرب الأولى». «قضية العرب المركزية». «البوصلة». «موقفنا من دول العالم يُبنى على موقفها من قضية فلسطين»... مَن كانوا يسمعون هذا الكلام الكثير والمتكرر انقسموا بين مُصدقين له ومتظاهرين بالتصديق تبعاً لضعف ذات اليد.
مع ذلك، وما دمنا نتحدث عن دول وسياسات، وأحياناً سياسات متضاربة، فإن القضية الفلسطينية ما عادت تتقاطع مع الهموم الوطنية لباقي الدول العربية. ما عادت تحمل وعداً تحررياً لأحد. ما عادت تحمل وعداً اقتصادياً بحياة أفضل. الدعوات التي تظهر على هامش القضية إلى مقاومات ومواجهات بلا نهاية فقدت كل جاذبية في العالم العربي، وأغلب الظن بين الفلسطينيين أنفسهم.
هذا الانقطاع بين القضية وشؤون الدول وهمومها بات الخلاصة الكارثية على الجميع، الخلاصة التي لم تكن السياسات الفلسطينية بريئة منها. فالقضية لم تعد تخاطب مصالح الدول والشعوب أو مخاوفها، لا بل هي تغذي تلك المخاوف أحياناً. فلنفكر للحظة في أن حركات كـ«حماس» أو «الجهاد الإسلامي» تتحالف مع إيران التي يشعر شطر أساسي من العالم العربي بالخوف منها. إنهما تكرران على نحو أسوأ وقوف منظمة التحرير الفلسطينية مع صدام حسين حين غزا الكويت عام 1990.
إلى ذلك، وفي الحد الأدنى، بات يمكن القول إن تأثير ما يحصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين على باقي العالم العربي غدا ضئيلاً جداً. وبالضبط لأن الضجيج حول القضية صار أكبر من واقعها، توسعت قدرة أي كان على الاستحواذ عليها واستخدامها: هكذا أمكن لبشار الأسد أن يستعملها على النحو الذي فعل، وأمكن لإيران أن تمثلها وتتزعمها.
وهذا الانفكاك ليس عديم التاريخ: فمنذ 1969 في لبنان، و1970 في الأردن، تبين أن المصالح والإرادات قد تتنافر على نحو تعجز عن إصلاحه الشعارات القومية. ومن اتفاق كامب ديفيد الذي لم تناهضه أي انتفاضة جماهيرية في مصر! إلى حرب تحرير الكويت، اتسعت رقعة التناقض قبل أن تشير الثورات العربية إلى مسائل وطنية كثيرة كسرت المركزية اللفظية للقضية الفلسطينية.
مرات كانت تبدو الأمور أفدح: العراقي والسوري اللذان كانا يئنان في زنازين صدام والأسد طولبا، كي ترضى عنهما القضية، بأن يوجها حقديهما صوب أميركا لأنها راعية إسرائيل! في حالات كهذه بدا أن كلفة القضية صارت تفوق قدرة البشر.
في هذه الغضون بدا لافتاً تراجع عدد الدول العربية المحاربة: 7 في 1948، و3 في 1967، و2 في 1973، و1 في 1982، ثم حروب موضعية في لبنان وغزة.
هذه الوجهة كانت تشق طريقها بالتضاد مع ميل راسخ إلى تثقيل القضية بما يجعلها مستحيلة الحل: الإسلاميون ربطوها بالحروب الصليبية، واليساريون ربطوها بالإمبريالية وتوسعها الكوني، والقوميون ربطوها بتفتيت «الوطن العربي». إذن لن يأتي الحل إلا عبر دحر الغرب بوصفه «الصليبية الحديثة»، أو في سياق انتصار الثورة الاشتراكية العالمية، أو ضمن عملية توحيد العرب. هذه الشعارات انتكست واحداً بعد الآخر، وبدت قوارب مثقوبة لا توصل إلى مرفأ. مع هذا، بقي منها تلك الهدايا الثمينة التي قدمتها لغلاة الصهيونية الذين أرادوا، هم أيضاً، تثقيل القضية بحيث يستحيل حلها. ولأن إسرائيل هي الأقوى عسكرياً، كانت وحدها من يستفيد من هذا التثقيل تعنتاً واحتلالاً وقضماً للأرض.
هذا كله محزن كما النوستالجيا محزنة، إلا أن العيش في النوستالجيا ليس مأمون العواقب على أصحابه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التطبيع والقضية وبعض المسائل المسكوت عنها التطبيع والقضية وبعض المسائل المسكوت عنها



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 17:40 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 19:20 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الأحد 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 15:06 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

طريقة تحضير ستيك لحم الغنم مع التفاح الحار

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

غادة عادل تنشر صورتها مع زميلاتها في إحدى صالات الجيم

GMT 22:38 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

الغساني يبدي سعادته بالأداء الذي يقدمه مع الوحدة

GMT 16:15 2015 الأربعاء ,04 شباط / فبراير

"بي بي سي" تطلق موقعًا جديدًا على الإنترنت

GMT 21:06 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

طقس غائم وفرصة سقوط أمطار خلال الأيام المقبلة

GMT 20:01 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 06:47 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ابرز النصائح والطرق لتنظيف السيراميك الجديد لمنزل معاصر

GMT 08:14 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس

GMT 09:42 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

"بيوتي سنتر" مسلسل يجمع شباب مصر والسعودية

GMT 22:57 2019 الأربعاء ,06 آذار/ مارس

بن راشد يعتمد 5.8 مليار درهم لمشاريع الكهرباء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates