عائشة سلطان
دبي مدينتي التي ولدت ونشأت فيها، وفيها تعلمت أبجدية البحر والصحراء ، ولسبب مجهول لم أعرفه حتى اليوم تكرس فيها عشقي للجبل وقاطنيه مع أنها مدينة خالية من التضاريس الملتوية والملتبسة والنتوءات، دبي مدينة سهلة كالأرض، مكشوفة وواضحة كالضوء، لكن سببا ما ربما يعود لجينات بعيدة تصهل في دماء عائلتي وجدت نفسي متعلقة بكل المناطق والمدن الجبلية، أحببت صعود الجبال والانطلاق عبر طرقها الضيقة والوقوع في هوى هواء الجبل واهل الجبل وعادات الجبليين، بينما للسبب المجهول نفسه كان أغلب إخوتي واقعين تحت رعب صعود المرتفعات أو ما يعرف بفوبيا المرتفعات. دبي مدينة يمكنها أن تثير أعصابك بزحامها في منتصف الظهيرة، وفي ساعات نهاية اليوم لحظة الغروب، لكن دبي ليست سبب الزحام، المدن لا تخترع زحامها، الناس يريدون أن يحملوا كل التفاح بيد واحدة، يريدون أن يعملوا في دبي في وظائف مرموقة وبأجور عالية ويريدون أن يتسوقوا في دبي ويجلسوا في أرقى مطاعمها ومقاهيها، ويطلقوا العنان لأقدامهم لتجوب أجمل مماشيها وشواطئها ومراكزها التجارية، ويضعوا على سياراتهم لوحات أرقام تحمل اسمها.. لكنهم لا يريدون أن يقطنوا فيها لأنها مكلفة، ثنائية الإقامة والحياة في مكانين مختلفين تكلف دبي غاليا وتدفع ثمنها باهظا جدا.. كل لحظة. دبي بالنسبة لي هذا كله وأكثر بكثير، أطفالها نحن الذين كبرنا معها، نعرفها على وجه الدقة، نعرف طفولتها وشبابها وجمالها وطموحها ومغامراتها وإيمانها بالغد وولعها بالمختلف وعشقها للرقي، كصبية باذخة الحسن ترتدي معطف البحر وتتعطر بالنهار وتمضي توزع الأمل والحلوى والهدايا والأمنيات والوعود، وتسيج نفسها جيدا ضد عيون قطاع الطرق واللصوص، نحن أبناؤها الذين نحبها بشكل مختلف يشبهها، ننتظر المساء لتلقي برأسها على أكتافنا، تقول أحلامها للصباح القادم ومخاوفها التي لا تخاف منها الا علينا، ثم تنام وفي بالها دوما أغنية البحر وأحلام الناس.. كل الناس.
علمتني هذه المدينة كيف ألعب مع الريح، وكيف اقذف نفسي في البحر حتى الغرق لأتعلم، وكيف أقرأ لدرجة الظمأ، لذلك لم أشبع من الكتب بعد، وعلمتني ان الإنسان لا يكون إنسانا الا اذا أعطى وبذل وصارع وتحدى وأمن بالنور والنهار لان الظلام عارض مؤقت، علمتني أول ما علمتني الحب، الدرس الذي لم تنجح معظم المدن في تعليمه لابنائها.