عائشة سلطان
هذه صفحة من مخطوط صغير يضج برائحة السفر والمقاهي والرحيل، وجدته في قاع حقيبة مهملة لم تفتح منذ زمن: في صباحات الشتاء، حين تصحو على وجه مدينة لطالما داعبت مخيلتك، تحتلك بالتأكيد فكرة تأمل وجوه العابرين في شوارع المدينة الباردة، فتنساق وراء فكرة تأمل المشهد، تفتيته، متابعة المارة، تأمل تفاصيل ثيابهم، ألوانها، تجد نفسك تعدهم، واحد، اثنان، عشرة، خمسة وعشرون ... تتذكر فجأة أنك تقف أحياناً قرب مسجد الحي أو المركز التجاري التابع للمنطقة التي تسكنها، فلا يكاد يعبر أمامك أحد، تقول لنفسك إذا أردت أن أكتب عملاً روائياً ستواجهني مشكلة المشهد الناقص أو المشهد البارد، ثم تعود فتقول ذلك ليس مهماً، أنا في مكان مكتمل فلأراقبه جيداً.
مع افتتاح أول مقاهي الشارع المواجه للفندق حيث أسكن، وفي فضاء ذلك المقهى الذي يحمل اسم (أصحاب) أجلس باسترخاء، مع عدد من عشاق قهوة الفجر، أتدثر بوحدتي وبالرائحة اللذيذة وببصيص أنوار تنسحب ببطء، ابتسم لهطول الثلج، فعما قليل سيمحو البياض تفاصيل المكان، سيتغير لون الشارع، ستختفي الطاولات، وسيصبح قرميد المباني مختلفاً، أما مقاعد الطريق فستصبح غير قابلة للجلوس، أرتجف برداً وأكاد أدخل في فنجان القهوة بحثاً عن دفء .. خالية من كل خوف أو قلق أو ملل، انزلق إلى جوف المقهى لجوءاً إلى فنجان قهوة آخر!
أتذكرني وأنا في قطار العودة عائدة من فينيس ليلاً أطل بوجل الوحدة من زجاج نافذة معتم، يباغتني البياض المتوهج محتلاً السفوح، قمم الأشجار، الأغصان، ومتسرباً من مكان ما إلى أرضية القطار! يفاجئني رجل نبيل بترك مقصورته لي مختفياً في أحشاء القطار الضخم.
وأتذكرها تلك العجوز المتهالكة، وهي تجرجر حقيبة سفر كبيرة، محدثة جلبة هائلة في ذلك الفجر الشاحب، ومتجهة صوب محطة القطارات، كانت منهكة ووحيدة وراجفة مثلي، تقاسمت معها الإفطار وبعض الوحدة وسافرنا في القطار نفسه .. كل في طريق، أنا إلى فيرونا، وهي إلى لا أدري أين!!
صباحات مختلفة، مبللة بصور المدن الباردة ورائحة فناجين القهوة ووجوه البشر وضجيج محطات القطارات ومشاريع السفر، حكايات الصباح والرحيل والوداع والوقوف عند التفاصيل والكثير من المشاهد، تلك روايات تكتب وحكايات تقال وكثير منها يختبئ .. في المخطوط وهناك في أغوار القلب!