عائشة سلطان
كتب هنري ميللر ذات مرة «مهما تفعل، غيابك هو خسارة لهذا العالم، هذا ما نميل إلى قوله عندما يغادرنا رجل عبقري..»، كان ميللر يتهكم وهو يقول ذلك؛ لأنه بعد هذه الجملة مباشرة، عدد مجموعة من الحالات التي يغادرنا فيها هؤلاء العباقرة بمنتهى البساطة دون أن نكون قد فعلنا شيئاً يوازي - كما يفترض - شعورنا بالامتنان تجاههم. العباقرة يمضون ببساطة ضمن قوائم من يموتون على فراشهم أو في الحروب والكوارث الطبيعية كغيرهم، أظنهم لم يحلموا يوماً بموت كرنفالي، لكنهم وبالتأكيد كانوا يمنون النفس بحياة تحتفي بهم حقاً، تريهم نظرة الانبهار وشهقة المفاجأة بعبقريتهم قبل أن يصيروا مجرد أرقام في قوائم الموتى.
للإنسانية تاريخ مشين وغير محترم مع مئات العباقرة والمختلفين، لقد ظلوا دائماً يشعرون بأنهم غير مرحب بهم، بل ومطلوب اختفاؤهم أو الخلاص منهم، فعادة ما يسجنون أو يقتلون أو تحرق كتبهم أو ينبذون، يوسمون بالجنون والـ(الهبل والعبط)، وتتم السخرية منهم علانية، الكاتب والرسام والممثل والفيلسوف والمفكر والمسرحي والـ .. هؤلاء الذين يقتاتون من روحهم، ويتغذون على خلاصة عقولهم لكنهم وبمجرد أن يموتوا يتحولون بقدرة قادر إلى أصنام ورموز وخسائر وطنية، تنصب لهم التماثيل وترصد الجوائز ويعاد البحث عن كل ما خلفوه حتى لو كان منديلاً مسح به أنفه ذات زكام.
لم يشتر الناس في حياة فان جوخ رسوماته سوى بمبالغ زهيدة، ولم ينظر لفرانز كافكا بذلك التقدير المفترض، أما عملاق الرواية الروسية ليو تولستوي، فقد تجاوزته نوبل ولم تمنحه جائزتها، رغم أنه توفي بعد عشر سنوات من تأسيس الجائزة الرفيعة، هؤلاء وغيرهم كثر من عباقرة العالم، كان يمكننا لو أننا عشنا في زمانهم أن نحيطهم بتلك العبارة (غيابكم هو خسارة لهذا العالم) إنهم يستحقونها فعلاً، لكنهم رحلوا دون أن ينعموا بما ينعموا به اليوم من احتفاء فائق، فكتب كافكا لها مكانتها ومخطوطاته تباع بملايين الدولارات، أما لوحات فان جوخ فلا يمكن شراؤها؛ لأنها تحولت إلى ثروات قومية لا تقدر بثمن ومحفوظة في أعظم متاحف العالم.
العباقرة يتحولون - على ما يبدو - إلى ثروة حين يرحلون فقط، وأن رحيلهم ليس خسارة كما نعتقد، رحيلهم يمنحهم تلك القيمة التي يدفعها القديسون ليحظوا بهالة القداسة، هذا قدر العباقرة ربما، أما خسائر الفقد، فلا تعدوا كونها مجرد شيء يشبه إعلاناً احتفالياً.