عائشة سلطان
غادرت إسطنبول آخر مرة في نهاية شهر أبريل منذ ثلاث سنوات، لقد مر الوقت سريعاً، كما مر العمر بشكل أسرع، تتسرب السنوات بطريقة لا نشعر بها، لكننا حين نريد استعادتها أو يوم نلتفت للوراء بحثاً عنها وعن تلك الأوقات الملأى بالمباهج والشغف يكون الوقت قد انقضى، والفرصة قد ذهبت، فالأشياء لا تعود كما كانت، وكذلك البشر لا يبقون كما هم أو على حد تعبير الشاعر فاروق جويدة (فلا أنتِ التي كنتِ ولا الزمان هو الزمان). وحده التاريخ يقبض على الزمن، أقصد التاريخ حين يصير آثاراً وشواهد وقلاعاً وكتباً وسيراً ومتاحف، يصير زمناً محنطاً ومسيجاً بسياجات لا تعد ولا تحصى، وأول هذه السياجات الموت! فهذا التاريخ الذي نتفرج عليه عبر القصور والصور والمتاحف يقف الزمن بكل عظمته -جامداً ومسيطراً في الوقت نفسه - كجبل هائل بيننا وبينه، فلا نحن نستطيع استعادة التاريخ، ولا نحن قادرون على أن ننفض عنه جموده ونعيشه ثانية، كل حدث يمضى يغادر الزمن ويظل معلقاً في لحظة اللازمن كالموت تماماً!
حين غادرتها كان شيء من الغليان يحدث تحت قشرة المدينة، كانت حديقة قديمة بأشجار معمرة تحتل جانباً من ميدانها الشهير (ميدان تقسيم بنصبه التاريخي الضخم)، وكان هناك حديث عن تخطيط وتحديث وإزالة وبناء، بعد فترة ليست بالطويلة امتلأت نشرات الأخبار بصور وأنباء التظاهرات والمصادمات بين الجيش والشباب في الميدان، قيل إن ذلك بسبب رغبة الحكومة التركية في إزالة الحديقة، وقال البعض إنه بسبب إغلاق الحكومة لمحال بيع الخمور، وقيل إن السبب له علاقة بمؤامرات تتولاها أجهزة استخبارات خارجية، وتحديداً أوروبية رغبة في كسر النمو الاقتصادي المتسارع والهائل لتركيا، وقيل إن تلك المصادمات جزء من تداعيات الربيع العربي، وقيل إن مخابرات عربية لها علاقة بالأمر على خلفية دور تركيا الإقليمي، وموقفها من الإخوان والنظام السوري وقيل الكثير، لكن الذي استوقفني هو موضوع الحديقة القديمة !
يمكنني أن أصدق بسهولة أن تثور مدينة أوروبية بسبب إزالة حديقة أثرية، فمزاج الأتراك يميل في بعض توجهاته للتفكير الأوروبي، كما وأن قطع شجرة يعتبر جريمة كبيرة، فحين صعدت إلى أعالي جبال منطقة (بورصة) وجدت فرصاً استثمارية هائلة لبناء فنادق ومنتجعات هناك، إلا أن ذلك سيستدعي إزالة أعداد كبيرة من الأشجار، وهذا ما لن يُسمح به أبداً، لذلك فالمكان باقٍ على حالته الطبيعية، ما يعني أن الحفاظ على البيئة منهج تفكير للناس هنا وهو جزء من شخصية مراكمة التاريخ والحفاظ على المكتسبات، فلو لم يحافظ الأتراك على تاريخهم العريق (الذي ينظر إليه بعض العرب والأوروبيين بعدائية بسبب دور الدولة العثمانية القديم) لما كانت تركيا بهذا التألق والجذب السياحي العالمي. الناس، كل الناس كما رأيتهم يعشقون التاريخ، لأنهم يريدون الحفاظ على الزمن وفهم أسراره المغلقة، فالزمن واحد من الأسرار العظيمة في حياتنا وعمر الكون.