عائشة سلطان
يعيش الإنسان السنوات الأولى من عمره مكتشفاً، يتلصص على الحياة بشغف، ومن أكبر ثقوبها وأبوابها، يحالفه الحظ في العثور على فرص لا تعوض للبهجة والضحك والنجاح، والحصول على الحب والأصدقاء والمال، تساعده سلاسة الأيام والوقت والعمر كي يكون كائناً خفيفاً حقاً يتنقل بين كل المفاصل والتفاصيل بسهولة من منزل لآخر، من وظيفة لأخرى، من حب لحب آخر، وأحياناً من مدينة إلى أخرى، من دون أن يتلفت حوله كثيراً ومن دون أن ينظر خلفه من الأساس، لا شيء يدفعه للندم والحسرة، الحياة في تلك الأيام تجسيد للفرص والبهجة والتمتع، وحين يراكم الكثير من الفرص والإنجازات يكون قد وصل إلى السنوات الثانية، يتلصص على الحياة ومن ثقوبها الكبيرة نفسها ولكن بكثير من الحذر!
حينما لا يكون لديك ما تخسره يكون قلبك جسوراً بما يكفي لتشعر كما يشعر عصفور لا يثمن شيئاً كما يثمن حريته وفضاءه ورفيقة عشه، هذه الجسارة أو التعفف تحولك إلى عدو لدود للبعض من دون أن تعلم لماذا، وتصبح كائناً لا تطاق خفته حسب تعبير ميلان كونديرا، لكنك حين تملك وحين تتعلق بالأشياء والذكريات والحكايات والإنجازات، وحين تتدافع وتتصارع وتدوس غيرك، عندها فقط تصير كائنا حذراً جداً، ولا تعود الأيام ولا الوقت ولا العمر سلساً كما كان، ولا تعود أنت كائناً خفيفاً أبداً.
تعد نفسك بأنك لن تكبر وستظل متفتحاً ومملوءاً بالشغف تماماً كوردة الخلود التي لطالما سعى جلجامش السومري للحصول عليها، وتظل متباهياً بقدرتك تلك ومتمتعاً بتلك الطفولة وذلك العنفوان إلى أن تهطل عليك السنوات الثالثة في عمرك، سنوات تجعلك تغادر الطفولة إلى غير رجعة، فتتلصص على الحياة ولكن من ثقوبها الضيقة وبكثير من الخوف: الخوف من الوحدة، ومن المرض والموت والخذلان والغدر.. إلى آخر هذه الأفكار الوجودية السوداء والحقيقية التي لا نعرفها ولا نعيها في سنواتنا الأولى، ولذلك لم نكن نفكر فيها أبداً، الخوف يغتال شغفنا بالحياة، فأنت طفل طالما أنك لا تخاف ولا تفكر في عواقب الأمور، وبمجرد أن تضع قدميك في نهر القلق والحسابات تغادرك الطفولة تماماً، وتسقط في الخوف الوجودي الذي يشبه بئراً بلا قرار !
يكون محظوظاً من استطاع أن يظل متخففاً كطفل لا يواجه الخوف أبداً.. لكن هل يمكننا ذلك؟؟ تلك هي الإشكالية الأزلية للإنسان منذ فجر البشرية وفي كل الأساطير والحضارات، إنه السعي للخلود الذي لم يحظ به أحد حتى اليوم!