عائشة سلطان
الواقع الحياتي في الأقطار العربية اليوم أصبح أكثر تعقيداً عما مضى، معيشياً، أصبحت الحياة لا تطاق، سياسياً، يبدو الأمر وكأنه لا أمل في التغيير، اقتصادياً، هناك أكثر من عصا غرزت في عجلات الحياة اليومية، البطالة، الفساد، الإرهاب... وأمور كثيرة، هذا هو الواقع، مع إيماننا بأن لا شيء سيبقى كما هو، وأن التغيير سمة الحياة وأنه ما من بلاد تضيق بأهلها كما يقول الشاعر، ولكن أخلاق الرجال تضيق، ذلك صحيح، في الشعر والقصص أو حتى في الواقع، ولكن لأجل محدد أما حين لا يلوح أي ضوء في النفق، فمن الطبيعي أن تضيق أخلاق الناس وأن يهجروا بلدانهم بحثاً عن متسعات أخرى أكبر تحتمل أحلامهم وأحلام أبنائهم، هذا ما نراه اليوم في هذه الهجرة الأسطورية الغريبة من بلدان الشرق الأوسط إلى المنافي البعيدة حول العالم!!
من هؤلاء من يتساءل هل سيعود ثانية إلى بلاده، هل هذا الهروب الاضطراري مؤقت وبرسم ما يحدث في الشرق، وأن انتهاءه يعني عودة الحياة إلى ما كانت عليه؟ فهل إذا ذاق المهاجر طعم الأمان وارتدى الطمأنينة والتحف بالكرامة ورغد العيش، وشعر بإنسانيته وحقوقه هل يعود ثانية إلى ما كان يرزح تحت ثقله من عذابات؟ . الموضوع بالنسبة لكثيرين ممن تركوا أوطانهم، هجرة وفراراً، موضوع معقد، والحديث عنه بحنين وحميمية يبدو رومانسية غير مقبولة!
موضوع الانتقال إلى بلد آخر يعتمد بالدرجة الأولى على نظام البلد الذي كانوا يعيشون فيه، وحيث لا تتحقق شروط العيش الآدمي والإنساني، إلا بتوفير نفق هروب بأية وسيلة، هذه قضية تضع الوطن والمشاعر الوطنية على المحك، لكن ما يجب أن نعترف فيه هو أن الأوطان جاءت بعد الإنسان، وأنها وجدت ليعيش فيها، لا ليموت قهراً وليمشي على ترابها مطمئناً بدلاً من أن تسير الدبابات على جثته!
نحن هنا ولله الحمد، اعتدنا على العيش في مدن مضيئة، نظيفة، رحيمة، ولذلك لا يمكن أن تصير فكرة الوطن ممسوخة يوماً أو قابلة للنقاش والجدل، في بلدان أخرى لا يتحدثون عن نوافذ مضيئة وشوارع نظيفة وحكومة تبحث عن سعادة مواطنيها ورجال شرطة طيبين ومتعاونين يقدمون الخدمات والورود للمارة في عيد الوطن، تبدو هذه الأفكار مثالية.
في بعض الأقطار، يبحثون عن شوارع لا يسمع فيها دوي الانفجارات كل يوم، لا تتلطخ بدماء الناس كل لحظة، لا يكون فيها الموت اعتياداً ممسوخاً! نحن في ضفة أخرى من هذا الوطن الملغوم والمحاط بأحزمة العنف والقتل اليومي، فأين المفر مما نرى ونشاهد ونتابع كل لحظة!