بقلم :عائشة سلطان
مررت بفترة مرض عصيبة، وحين أصفها بالعصيبة فلأنني لا أجد وصفاً أكثر وطأة يمكنه التعبير عن تلك الأيام الطويلة التي قضيتها أجرُّ نفسي كخرقة بالية بالكاد أحتمل آلامي، وبالكاد يمكنني أن أتوازن في المشي، وبالتالي أستطيع إنهاء اليوم لأبدأ يوماً آخر، لم يكن في تلك الأيام الطويلة شيء سوى الألم والكثير من السخرية المرة.
لم تتوقف محاولات جارتنا الطيبة التي أتعبت نفسها بحثاً عن رجال صالحين يقرؤون وينفخون في الماء، فتنقله الجارة إليّ موقنة بأن شفائي يكمن في شربي هذا الماء واغتسالي به، كانت تقول لي هو - تقصد الرجل لا الماء - لا يتقاضى مالاً مقابل هذا العمل، هو يفعل ذلك لوجه الله، لكن لا بأس من إعطائه شيئاً من المال على سبيل الصدقة فالرجل فقير، فأبتسم ولا أعلق، لأنني لو فعلت فإنها ستغضب، ولم أكن أريد لها أن تغضب، فقد كنت موقنة من محبتها ورغبتها في تقديم المساعدة، حتى ولو بماء مبارك قادر على شفائي، وحين شفيت أكدت المرأة على جدوى الماء المبارك الذي شفاني لكنها لم تقتنع بأنني شفيت لسبب آخر، وأن الماء كان سيبدو مباركاً أكثر لو أنه أخرج الرجل من فقره المدقع!
هل قلت إنني لم أقابل المعالج الصالح؟ لقد كان علاجه على طريقة التعليم من بعد! الأمر الذي ذكرني بحكاية حصلت في طفولتي وحكتها لنا أمي لاحقاً، عن شاب شغف بإحدى السيدات حباً، فتعلق بها بشكل جنوني فشلت معه كل محاولات عائلته لردعه، حتى جاء ذلك اليوم الذي قيل إن رجلاً من الصالحين يمكنه إنقاذ هذا الشاب بمعجزة، فأرسلت له الأم رسالة تشرح فيها حالته وتعلقه بامرأة لا تحظى بموافقة العائلة، قال الذين حملوا الرسالة للشيخ الصالح إنه تمتم بكلام كثير بعد أن قرأها، وقالت أم الفتى إن قلبه صُرف عن المرأة في تلك الليلة التي قرأ الشيخ الرسالة، أي أن المعجزة قد حصلت عن بعد!
في الحقيقة لقد تجاوزتُ مرضي ببرنامج علاج طويل ومتشعب وعلى مدى ثلاثة أشهر، كنت خلاله أتبع حمية غذائية وعلاجاً دوائياً وبرنامج علاج طبيعي، كما لم يتوانَ شقيقي عن إخراجي من كآبات المرض الطويل بأن اصطحبني في أسفار متعددة لمدن لطالما حلمت بالسفر إليها ولم أستطع لأسباب مختلفة!
في أحد أسفاري معه أهداني كتاباً للروائي باتريك موديانو بعنوان «حتى لا تتيه في الحي» بعد أن قرأته اكتشفت أن موديانو أراد من خلال حكاية بطله المتوحد مع ذكرياته أن يغرس في أعماقنا شكوكاً حول ما نراه ونألفه وقد نصدّقه واقعنا، فإذا به يقول لك إنّ ما يفصل بين حدود الواقع والوهم ليس سوى خيط واهٍ. من هنا تتداخل الأزمنة والحكايات والأوهام، فالشاب شفي لأنه اكتشف حقيقة المرأة وخديعتها، وليس لأن الشيخ عالجه وشفاه على بعد آلاف الكيلومترات.
المصدر :جريدة البيان
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع