بقلم - عائشة سلطان
خطر ببالي هذا السؤال وأنا أقرأ رسائل غرامشي إلى أمه، تلك الرسائل التي كتبها فترة سجنه التي طالت لأكثر من 11 عاماً: كيف يمكن لمن يعيش تلك الظروف القاسية أن يكتب كل هذا الفكر وبكل هذا الحنين والعذوبة؟
أنطونيو غرامشي، مفكر إيطالي انتمى للجهة المناهضة للنظام الفاشي الذي حكم إيطاليا ضمن موجة المد الديكتاتوري التي سادت أوروبا في الثلاثينيات، فأمر موسيليني بسجنه عشرين عاماً، وانتهت به إلى مصحة علاج خاصة، مات فيها بسبب نزيف في المخ جراء التعذيب، لقد ترك غرامشي خلفه مشروعاً فكرياً كبيراً وضعه في 3000 صفحة دونها بخط يده عرفت بكراسات السجن.
كراسات غرامشي إلى أمه وأصدقائه وأسرته، بقيت شاهدة على عصر لا يمكن محوه، لأن العالم بحاجة ماسة لكل فكرة تكرس قيمة كبرى ولكل المفكرين الذين يضيئون الطريق نحو واقع أكثر إنسانية ورحمة وسلاماً.
لقد انتقد غرامشي الهيمنة الرأسمالية كما هاجم ستالين، لكن رسائله إلى أمه وأسرته تذكرنا بكل المستنيرين الذين يرون الخطر فينبهون له قبل غيرهم، أولئك الذين يطلقون صرخة التحذير في واجهة الخطر الذي لم تر علاماته سوى زرقاء اليمامة.
لم يتوافر لغرامشي في زنزانته أي نوع من الرفاهية والراحة والوثائق ليكتب مشروعاً فكرياً موثقاً متماسكاً كما يجب، ومع ذلك فقد اعتمد على ذاكرته وحدها، في ترميم أفكاره، وظل يكتب بلا توقف، فكتب حول: الإصلاح ودور المثقفين وأفكار ميكيافيللي والأدب والمجتمع كما تحدث عن عصر النهضة ودانتي والمجتمع المدني. كان يكتب ليقاوم الموت، وكان يكتب ليتواصل مع أمه وأصدقائه ليشعر بأنهم معه دائماً، وكان يكتب لأنه يؤمن بأن هذه هي وظيفته كمثقف في الحياة: أن يكتب ليصبح العالم مضاء وأكثر احتمالاً.