بقلم - عائشة سلطان
الذين قرأوا رواية «الجريمة والعقاب» للروائي الروسي الكبير دوستويفسكي أو رواياته الأخرى مثل: «الأخوة كرامازوف، الشياطين، الفقراء، في قبوي»... يعلمون على وجه الدقة أن أول ما يتصف به أدب هذا الروائي الأستاذ هو اشتغاله على البعد النفسي لجميع أبطال رواياته، فكل أعماله تشريح دقيق وسبر علمي مفصّل لدقائق ودخائل النفس الإنسانية بكل تناقضاتها وفي كل أحوالها: الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، الحب والخيانة، الشرف والذل و... إلخ، حتى أنه يصعب وجود شخصية في أعمال دوستويفسكي ليس لها بصمة محددة صنعت خلودها كل هذه العقود الطويلة من الزمن!
إن مارميلادوف السكّير لا يمت بصلة للشاب راسكولينكوف قاتل العجوز المرابية وأختها في «الجريمة والعقاب»، ولكن الشر الظاهر عند القاتل والسكير وفتاة الليل... إلخ لا يعني خلو هذه النماذج البشرية من الخير، ففي داخل كل إنسان بذرة خير قد تسقى بماء جيد فتصير شجرة، وقد تهمل فتذبل البذرة وقد تموت تماماً.
في رواية «الجريمة والعقاب» وفي أحد المقاطع يدخل مارميلادوف الشقي ذات ليلة إلى إحدى الحانات وهناك يلتقي بالشاب راسكولينكوف، ويسأله: هل تعلم يا سيدي ماذا يعني ألا يكون لديك مكان تذهب إليه في هذه الحياة؟ إن هذا السؤال الذي يصدر عن سكّير يعتبر أحد أصعب الأسئلة الوجودية التي طرحها الأديب الروسي ضمن أسئلة وجودية كثيرة تضعها أمامنا رواياته العظيمة، وتمنحنا كل الوقت لنجيب عنها شريطة أن نمتلك القدرة على سبر أغوار النفس وقراءة ما وراء الوجوه.
ماذا يعني ألا يكون لك مكان ترتاح فيه وسط عشرات الأماكن؟ ماذا يعني ألا يكون لك صديق حقيقي من بين عشرات الأشخاص الذين يظهرون كل يوم في حياتك؟ ماذا يعني أن تكون غريباً وسط أهلك فتكتم ألمك دون أن يشعر بك أحد حتى تتلاشى وربما تموت؟ أسئلة بحجم معاناة إنسان اليوم وربما إنسان كل الأزمنة، الإنسان الذي يكتب عنه وله دوستويفسكي.