بقلم - عائشة سلطان
من أكثر وأجمل الكلمات ذات الدلالة العميقة في اللغة العربية كلمة: الجسر أو الجسور، فإذا قرأت في الثقافة، أو في الدين والعمران أو في السياحة والحضارة والحروب، والذكريات والقصائد، أو كان حديثك حول الأغاني والحب والسينما فلابد أن يحضُر الجسر، وتتراءى لك الجسور التاريخية والحديثة، الخشبية البسيطة والفولاذية العملاقة المعلقة على أكبر الأنهار والممرات المائية، ولذلك تبقى الجسور تجسيداً حقيقياً في اللغة كما في العمران؛ لشغف التواصل والاتصال منذ خُلق الإنسان.
نتذكر حكاية الشاعر البدوي الذي جاء إلى مجلس الخليفة الخليفة العباسي المتوكل، فمدحه لكن ببدوية فجّة استنكرها مَن حضر المجلس، فأرسله الخليفة ليعيش في بغداد مدة من الزمن، يُـطالع المدينة وحياة أهلها، ومظاهر مدنيتهم وحضارتهم وترفهم، عاد بعدها (علي بن الجهم) إلى مجلس المتوكل لينشده قصيدة من أرق الشعر وأعذبه يقول مطلعها:
عيونُ المها بين الرُّصافة والجسرِ
جَلَبْنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
وعلى نهج بن الجهم، صاغت شاعرة بغداد الرقيقة لميعة عباس عمارة قصيدتها الرائعة «الجسر المعلق» التي ختمتها بقولها:
ويظَل هذا الجسرُ يُفصــلنا وكأنَ دَجلة تحتهُ بــحرُ
خُلقَتْ جسـورُ الكـونِ موصـلةٌ إلا المعــلقِ أمرهُ أمــرُ
هذا الجسر البغدادي الذي أصابته قذائف الحرب وجعلته يهوي على ماء دجلة ساحباً معه الحياة التي كانت ذكريات الناس وذاكرة النساء اللواتي بكَيْنَه وبكيْنَ عمراً قضينه يتبخترن فوقه!
في الحروب أول ما يعطّله العدو جسور المدينة ليمنع تواصل أجزائها، وفي السفر أول ما نفكر فيه أن نبحث عن جسور المدن القديمة، وفي التاريخ الإنساني لا يزال الإنسان يبحث عن كل ما يشكّل جسراً للتواصل مع الآخر وحضارته.