بقلم - عائشة سلطان
كتبت أحلام مستغانمي تصف المدن: «المدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً، أو تغريك وتربكك، تملؤك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك، هنالك مدن لم تخلق لتزورها بمفردك، لتتجول وتنام وتقوم فيها، وتتناول فطور الصباح وحيداً، هنالك مدن جميلة كذكرى، وقريبة كدمعة، وموجعة كحسرة...»، ولقد زرت كل هذه المدن كما وصفتها أحلام، وسمّيتها «مدن الروح».
فهكذا هي المدن، أحد مفاتيح التجربة الإنسانية وشواهدها الخارقة، وكأن الله خلق البشر ليخلقوا المدن، لكنهم بعد أن فعلوا وقفوا حيالها مندهشين كأطفال، بعد أن باغتتهم معجزة الخلق وبهرتهم سطوة الجمال فهاموا بالمدن وعشقوها، هاجموها واحتلوها، أحاطوها بالأسوار ثم حطموها، دكُّوها بالقنابل وأبادوها ثم أعادوا إحياءها، لكنهم لم يتمكنوا بعد أن ذاقوا لذة المدينة من أن يعودوا للكهوف أو يعيشوا بعيداً عنها.
حين زرت باريس في صيف 2001، لم أحبها أبداً، وكان الحق على الطقس، ففي ذلك الوقت كانت الحرارة عالية والشمس تأكل الرأس والروح، ولم أجهد نفسي في عشقها، أجّلت تلك المهمة لسفر آخر، لكنني حتى اليوم وبعد مضيّ أكثر من 20 عاماً لم أحاول أن أزورها ثانية.
وحين زرت القاهرة، أحسست بأنني أنتقل من بيتي لبيت إخوتي، أما حين سافرت لبيروت فقد أحسست بها تتغلغل في روحي وأنا أحلق في سماواتها لم تهبط بي الطائرة بعد، وحين هبطت كونت صداقات، واشتريت فيها بيتاً في الجبل.
للمدن مزاج ولكل مدينة مزاجها الخاص، وما بين المرء والحب مسافة كيمياء، فإما أن تمنحك مفاتيحها منذ النظرة الأولى والخطوة الأولى ورشفة الماء الأولى ولقمة الطعام الأولى، وإما العكس تماماً، أنا أعترف بأنني لم أبرأ من عشق مدن عدة، أظنها استوطنت روحي إلى ما لا نهاية!