بقلم - عائشة سلطان
في أحد محال المركز الضخم الذي وجدتني أدخله بدعوة حلوة وبصحبة صغيرات العائلة لاحتساء فنجان قهوة معهن هناك، بعد أشهر طويلة من العزلة والعزل والحجر والحظر، سألتني البائعة هل سافرت أخيراً؟ أجبت بالنفي، قلت لها نسيت متى آخر مرة سافرت فيها، ابتسمَتْ، أضفت لكنني آمل في سفر قريب، أجابت مباشرة: كلنا نأمل، قالت ذلك وهي ترفع يديها للسماء!
لا أدري كيف انفصلت عن اللحظة التي كنت فيها، كيف خرجت من المكان تماماً، وكيف هطلت تلك المشاهد البعيدة الغائرة في ذاكرتي، مشاهد السفر والمسافرين والمواقف، وتلك الوجوه والقصص الصغيرة التي لا ننساها أبداً.
أتذكرني ذات صباح شتائي في أحد المقاهي التي تفتح أبوابها باكراً جداً، وفي ركن قصي ومع عدد من عشاق قهوة الفجر، كنت أغرق في كرسي وثير متدثرة بمعطف ثقيل وبوحدتي وبرائحة القهوة النفاذة، أبتسم لهطول الثلج الناعم في منتصف نوفمبر، وأرتجف لشدة البرد حتى أكاد أدخل في فنجان القهوة الذي وضع أمامي بحثاً عن دفء، كنت خالية من كل خوف أو قلق أو ملل.
ثم تذكرتني وأنا في القطار عائدة من فينيسيا ليلاً، وبوجل الوحدة ورجفة البرد، أُطل من زجاج نافذة المقصورة المعتمة التي كنت أقبع فيها مع عجوز لم يرفع وجهه عن الكتاب، باغتني بياض الثلوج المتوهجة في الخارج محتلة سفوح الجبال، وقمم الأشجار والأغصان! وقد فاجأني العجوز بترك المقصورة ليترك لي حرية النوم.
صباحات مبللة بصور المدن الباردة وضجيج محطات القطارات ووجوه البشر وحكايات الصباح والسفر، تاريخ طويل أصبح وراءنا اليوم، وأصبح مجرد ذكريات، لكنني أيضاً أستمتع بهذا الصباح المشمس الذي يعبق بأصوات الصغيرات الجميلات بصحبتي!