بقلم : عائشة سلطان
كأنما خُلق الإنسان ليركض طوال عمره، يركض نحو رزقه، نحو المستقبل، يركض بحثاً عن الحب، المال، المغامرة، المعرفة، وكأنه لا يحتمل الحياة ساكناً، كأنما في سباق دائم مع المجاهيل كلها على الأرض، الغريب أنه لا يركض بالإصرار نفسه والهمّة نفسها نحو المجهول الأكبر: نحو نفسه!
يركض الإنسان دون أن يفكر في التقاط أنفاسه في اللحظة المناسبة، وحين يقف يكون الوقت قد فات وأصبح بعيداً جداً، كأنما ارتدى أحذية من ريح في أول الطريق، ليتجاوز سرعة الطريق، فلا يستوقفه أحد، خوفاً من أن ينبهه إلى ما تساقط منه على جانبي الطريق، وما فقده دون أن ينتبه.
إن ما يتساقط منه أو يفقده وهو يركض ليس ملكه وحده فقط، كثير منه ملك لآخرين ممن يركض بهم أو يركضون في معيته دون وعي. إن شغفنا كبشر بالمجهول الذي يقع في البعيد أو لمسه أو الحديث إليه، يجعلنا ننسى أجمل وأعظم التفاصيل الحاضرة بين أيدينا، ننسى الانتباه للجانب العادي والإنساني والعاطفي والبسيط فينا وفيمن حولنا، نتحول إلى ما يشبه الرجال الآليين، الذين يفترض بهم أن يكونوا خارقين ومتمكنين وأقوياء، وبعيدين عن الأخطاء والهفوات، في الوقت الذي وُلدت فيه حياتنا على الأرض ووجد معنا الخطأ الإنساني والنسيان.
مخيف جداً هذا الولع بأن نتحول إلى أناس آليين، أو أن يحل الآلي محل الإنساني والآدمي فينا وبيننا، فهل سنرى ذلك اليوم الذي سيبدو فيه مستحيلاً أن يقول أحدنا للآخر: صباح الخير يا أمي، كيف أنت يا صديقي، نهارك بهيّ يا حلوة؟ هل سيبدو الالتفات للتفاصيل جريمة مثلاً (كما تحدث جورج أورويل في روايته 1984)؟
فلا يحق لك أن تهتم بطعم السكر في فنجان قهوتك، ولا وهج اللون في عافية صغارك، ولا أن تقع في حب جارتك، ولا تعجب بجمال الشجر في حديقتك! كل الأفلام تحدثنا أن ذلك بات قاب قوسين أو أدنى.