بقلم _ عائشة سلطان
كلنا نحن إلى شخص كبير في البيت، أمهاتنا، آبائنا، عمتنا الممتلئة بالحكمة، جداتنا اللواتي بقين في الذاكرة المنطقة الأكثر أماناً في العائلة حين تهب العواصف من أي نوع ومن كل الجهات، ومدينة اللجوء السياسي الأولى التي وعاها وعينا البكر حين كانت تطاردنا قوات الوالدين الغاشمة لإنزال العقوبات المقررة، إذا لم تكن تعيش معنا في البيت ركضنا إلى بيتها، ومن دخل بيت الجدة فهو آمن حتماً، هكذا هي الجدة في ذاكرتنا جميعاً (الستر والغطا) في شيخوختها المتداعية، والداعمة لحركة التحريض ضدنا يوم كانت لا تزال تدب بكامل عنفوانها ومجدها، لكنها في كل الحالات كانت تبتغي صلاحنا وتقويمنا كما كانت تردد، بينما نحن سادرون في بكاء ما بعد العقوبة التي تسببت بها !
تصف الروائية التركية (ألف شافاق) جدتها لأمها فتقول عنها إنها كانت «امرأة لطيفة وغفيرة بالخرافات، قالت لي بعد أن شاهدتني أبكي لأسابيع بعد ولادتي: طفلتي العزيزة عليك أن تستجمعي قواك، ألا تعرفين بأن كل دمعة تذرفها الأم الجديدة تجعل حليبها أكثر حموضة؟» تقول شافاق وهي تروي تجربة الاكتئاب التي عصفت بها ما بعد الولادة: «لم أكن أعرف ذلك، لم تكن لدي أية معلومات حول ما يمكن أن تمر به أم جديدة بعد ولادة أول طفل لها، لم أكن أعرف سوى تلك الصورة المشعة بالفرح عن أم مبتسمة بوهن تستقبل مولودها بامتنان!» وحدهن الجدات يعلمن من الأسرار ما لا نتخيله مع علمنا أنهن لم يغادرن منازلهن يوماً لشراء كتاب ولا لحضور درس في التنمية الذاتية !
في رمضان منذ 5 سنوات غادرتنا جدتي، وقد كانت غفيرة بالحكايات أيضاً، توفيت بسلام في أمسية رمضانية كئيبة جداً، لم يكن رحيلها سهلاً، فقد كانت حتى آخر أيامها تشع بابتسامتها المعهودة وبظرفها الذي لازمها حتى أواخر أيامها، وكانت السبب في بقاء الكل، مجتمعين في البيت نفسه، متصلين ويترددون على بعضهم بعضاً، الجدة والأم تؤمان شمل العائلة مهما كانت عتبة الخلافات عالية، هذه واحدة من قدراتهن السحرية التي نفتقدها جميعاً.. رحمك الله يا جدتي !