بقلم : عائشة سلطان
لقد قرأتُ في مراهقتي وأنا ابنة أربعة عشر عاماً، ولعدة سنوات تالية، معظم ما أنتجه كُتاب القصة القصيرة وكبار روائيي روسيا، أمثال: تشيخوف، وغوغول، وفيدور تولستوي، وديستويفسكي، ومكسيم غوركي. أتذكر تماماً أن كتب هؤلاء كانت متوافرة أمامنا في مكتبة دار الحكمة بميدان جمال عبدالناصر (ميدان بني ياس حالياً)، ومكتبة دبي للتوزيع أيام كانت تقع في شارع نايف وليس ببعيد عن مركز شرطة نايف، من هاتين المكتبتين حصلنا على معظم ما قرأناه أيام مراهقتنا، تلك الأيام التي كنا نكوّن فيها وعيَنا حجراً حجراً بالكتب والمجلات وقصص مكتبة الفصل وبرامج الإذاعة المحلية.
يخيل إليّ اليوم أنني كنت أقرأ دون وعي حقيقي، فما كنت أفهمه كان يمر ويتخلل حواسي وذهني سريعاً دون كثير عناء، خاصة أن هذا النتاج العظيم قد تمت ترجمته على أيدي مترجمين كبار في ذلك الزمن، ما ساعد على سرعة انتشاره بين المراهقين وسهولة تقبله، أما تلك العبارات والمفاهيم والمصطلحات الغريبة التي لا نعرفها وليس لها محل من جملة الحياة اليومية فإنها كانت تتسرّب بين الصفحات كما هي دون أن تجد لها تفسيراً، لكنها كانت تجد مكاناً ما تختبئ فيه إلى أن أتت تلك الأيام التي أضاءت فيها المعرفة وعيَنا وأعادت صياغة فهمنا للحياة بشكل أكثر صلابة ووضوحاً.
أقرأ هذه الأيام ومجدداً واحدة من أجمل ما كتبه الروس، رواية «الأم» لمكسيم غوركي، وهي رواية كُتبت عام 1906 تتناول من خلال تحركات مجموعة من الشباب ظروف العمل وانتهاك حقوق العمال في أحد المصانع، هذه التحركات التي ستقود لاحقاً إلى ما عُرف بثورة العمال البلاشفة التي أسست ما صار يُعرف بعد عام 1917 بالنظام الاشتراكي واتحادات العمال العالمية وانتصار الطبقة العاملة.
«الأم» هي بطلة الرواية، وهي والدة البطل الرئيس التي نقلها وعيُها بحقوقها وبتفاهة الحياة التي كانت تحياها بأنانية مطلقة مع زوجها قبل وفاته وبغياب كامل للوعي ولمفاهيم مهمة كالحقوق والحرية والكرامة، هذه الأم التي ستندفع بداية للنضال مع العمال لأجل ابنها ومن ثم سيقودها وعيُها إلى أن تتبنى فكرة النضال لأجل المجموع ولحياة أفضل وأكثر عنفواناً وكرامة.
حين نقرأ فإننا نؤسس وعيَنا كلمةً كلمةً، وحين نُعيد ما قرأناه ذات مراهقة فإننا نعيد ترميم ما تساقط منا ونعيد إنتاج تلك الروح التي قرأت في البدايات!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن البيان