بقلم : عائشة سلطان
هذه المدن الكثيرة في العالم والتي تركض نحو تفكّكها، ونحو العزلة، أو نحو الغد كما يقول البعض، إلى أي غدٍ تركض بالضبط؟ هل تعرف حقاً ما يريده الناس فيها، هل تفقدت رغباتهم واحتياجاتهم ولذلك قررت أن تركض مرتدية أحذية من ريح لتصل إلى ما يرضيهم؟
أن تتجاوز سرعة الطريق المحددة، دون أن يوقفها أحد، أو يلفت نظرها إلى ما يتساقط منها على جانبي الطريق، إلى ما تفقده دون أن تنتبه، علّها تنتبه بالصوت المسموع إلى أن تلك المفقودات ليست من الأملاك المُشاعة على قارعة التطور التاريخي، إنها ملك الناس الآنيين، الحاليين، الذين يعيشون يومهم بكفاف أحلامهم.
لكن ماذا عن الانتباه للتفاصيل الإنسانية؟ ماذا عن إنسانية الإنسان وذاكرته وقلبه وعلاقاته؟ ماذا عن عروق المدينة ووجهها القديم، ماذا عن فقرائها، الناس الذين لم يُصبّوا في قوالب عيادات التجميل؟ ماذا عن البسطاء، النساء اللواتي لا يعرفن شيئاً عن كيم كاردشيان ولا الآيباد ولا يعرفن كيف يعمل الآيفون؟
والأطفال، لماذا عليهم أن يحدثوا الآلات طيلة النهار وفي أحلامهم، يصيرون آلات بعيون تنفث لهباً وبأذرع فولاذية تحمل أسلحة مخيفة جداً؟ والنساء، ما بال النساء أصبحن نسخاً يشبهن بعضهن بعضاً دونما سبب وراثي ظاهر، أو يشبهن مخلوقات فضائية توحّمت عليها النساء وهن يجلسن باسترخاء بليد في قاعات باردة أمام شاشات فضية عملاقة يقضمهن رعب الوحدة طيلة الوقت!
ماذا عن صباح الخير يا جارتي، تفضلي لنشرب فنجان قهوة معاً؟ كيف أنت يا صديقي؟ نهارك بهي يا حلوة، ما أحوالك يا أمي ويا جدتي، وتعالين يا جارات لنتعشى في بيت جارتنا التي غدت وحيدة بعد أن هجرها ابنها إثر زواجه مؤخراً؟
بعض مدن العالم وهي تركض نحو الغد تفقد نكهتها، رائحة مبانيها القديمة، كما تفقد حساسية الالتفات إلى تفاصيلها الحقيقية، إلى طقوسها الفاصلة بين الإنسان والآلة، إلى اختفاء الكبار من المقاهي وتكدُّسهم في دور العجزة، إلى بلادة الصغار أمام الأجهزة الرقمية، إلى ضياع المراهقين.. وإلى أشياء جميلة لا تكون الحياة حياة إلا في ظلها، لذلك تخترع كثير من الدول مدناً قديمة يذهب إليها السياح لالتقاط الصور وشراء التذكارات لا أكثر!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن البيان