بقلم : عائشة سلطان
كل كتاب يحتوي على حياة كاملة قائمة بحد ذاتها، بشخوصها وظروفها وتقلبات أحوال الناس فيها، بعُقدهم ورغباتهم واختلافاتهم، واختلافهم الجذري عنا، لكن ليس كل الذين يقرؤون يستطيعون التعبير عن ذلك أو إخبار الآخرين عما تعنيه لهم القراءة، لكن هناك مَن يستطيع أن يفعل أكثر مِن ذلك.
الذين يقرؤون -في معظمهم- أشخاص ناضجون وناجحون بشكل أو بآخر، ولديهم علاقات اجتماعية وحياة عملية ووظيفية جيدة، إذاً فهم لا يقرؤون لأنه لا عمل ولا علاقات، ولا لأنهم لا يحظون بحياة جيدة أو صاخبة إن شئتم؛ هم يقرؤون لأنهم توصلوا بشكل يقيني إلى المعنى العميق والجليل للحياة، فأرادوا الاستزادة، فذهبوا يطرقون أبواب المكتبات وارتدوا معطف القرّاء.
إن القراءة هي الشيء الوحيد الذي يجعلك تعيش حيوات أخرى لم تعشها، في أزمنة لم تشهدها، وفي عقول أشخاص لم ترهم ولم تمر بظروفهم، فقط القراءة هي التي تجعلك تشعر بأنك لم تعش حياةً قصيرة، بل عِشت مئات السنين.
انتهيت الأسبوع الماضي من قراءة «الأمواج السبعة» للكاتب النمساوي دانييل غلاتاور تتمة لرواية «نسيم الصبا» التي غرقتُ في قراءتها وحين أتممتها شعرت بمن قُذِف به من علو خمسين طابقاً. الروايتان تُعيدان ذكريات ذلك النوع من الحب عن طريق تبادل الرسائل، وهنا فالرسائل إلكترونية لا تخلو من العمق والفلسفة والتحليل النفسي الذي يميّز عادة الرواية الغربية التي تجنح لسبر أغوار النفس البشرية وتلمس احتياجاتها الملتبسة.
الرواية الثالثة «زيارة طبيب صاحب الجلالة»، تروي تفاصيل الصراع داخل قصر أحد ملوك الدنمارك في القرن الثامن عشر بين التنويريين والمحافظين في ظل سلطة ملك قيل إنه كان مجنوناً، أما «مانديل بائع الكتب القديمة» فهي الرابعة، وهي من روائع الكاتب النمساوي ستيفان زيفايغ الذي يفاجئك بقدرته الفائقة على الحفر في أعماق الشخصية، حتى ليحول البائس مانديل إلى ما يشبه الإنسان الخارق أو الكامل الذي بشَّر به الفيلسوف الألماني نيتشه.
الخلاصة: كلَّما قرأنا لأدباء من الشرق أو من الغرب، من السويد أو جنوب أفريقيا، ازددنا إيماناً بأن الإنسان هو الإنسان، وأنه إذ يكتب فإنه يخلِّد حضوره وتجربته ويعيد إنتاج تاريخه، وأن هذا التاريخ وتلك التجربة يتكرران في كل مكان بتشابه غريب أحياناً، وإن بأسماء مختلفة وعبر سياقات زمنية متفاوتة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن البيان