بقلم : عائشة سلطان
ما أتذكره جيداً، أننا في طفولتنا البكر، تلك الطفولة التي حين نتذكرها، يتدحرج الموج في قاع القلب، وتهب روائح أسماك، وتخشخش قواقع كنا نمشي عليها، ونحن نركض في تلك المساحات البيضاء من رمل الشاطئ، ما أتذكره هو الرفاق الذين كبرنا معهم، الرجال الذين كنا نسمع تعليماتهم كما أهلنا، مدرسة الحي الأولى، وأبقار جدتي، ما أتذكره هو طقس الأمان، الذي كان يملأ الأمكنة بلعبنا حتى ساعات الليل المتأخرة.
ما أتذكره بوضوح تام ونقي، يشبه الألوان في العلبة الصغيرة، النوارس، ثياب الصغيرات المزركشة، ثياب الجدات والأمهات العابقة بالألوان والبخور والعطور، أبواب البيوت المتلاصقة، مئذنة مسجد حي عيال ناصر وأصوات الأذان، المراكب الواقفة كلعب بعيدة لا تطالها أيدي الصغار، رزم السمك يحملها الرجال الخارجون من مراكب الصيد، أسماك (العومة) المفروشة على الرمل في حي (الضغاية) الموازي لحيّنا.
وأتذكر ما هو أكثر وأجمل، هذه ذاكرة نحبها جميعاً، نعشقها، وحين تلوح، نبتسم ونمد أيدينا كمن يريد الإمساك بها، كم يريد أن يصير خيطاً يرف في قماشة تلك الأيام، تلك الذاكرة ليست سوى الوطن، حين تسلل واستقر حباً أبدياً في داخلنا، فهكذا أحببنا نحن الوطن، لعبنا معه بحراً وموجاً، ركضنا ودفنا أجسادنا الصغيرة في رمله ومائه وملحه، حتى استقر كفصيلة دمنا، غافلنا نوارسه واصطدنا أسماكه، وتعرفنا إلى كل شيء فيه، هكذا نما الوطن فينا، وهكذا لن ننسلخ منه ما حيينا.
اليوم يحتاج الصغار إلى الكثير، لتغرس فيهم هذا الوطن منذ النَفَس الأول، منذ الخطوة الأولى وأول حرف يتعلمونه، فحب الوطن وحب الانتماء إليه، ليس مجرد شعارات نرددها، وأعلام ملونة، وأغانٍ وموسيقى، الوطن أكبر وأعمق وأجمل، إنه المعنى الآخر للأمان، والكرامة، وفضاء الحرية الذي بلا حدود، هو التعليم والصحة والبيت والأهل، هو الحنين لحارات اللهو ومرابع الصبا، وحتى لتلك الجدران التي كتبنا عليها بالفحم وبالطبشور، كل العبارات التي تعلمناها في المدرسة، اليوم، ونحن نحتفل بعيد الاتحاد، فإنما نحتفل باستحقاقنا لهذا الوطن ووفائنا له، كما نحتفل باستحقاقه لكل ما وصل إليه من مجد وجمال.
الثاني من ديسمبر.. وكل يوم، وأنت وطني وأرضي وأمني وأماني.