بقلم : عائشة سلطان
في روايته (مائة عام من العزلة) يصنع ماركيز معجزة قرية من لا شيء، يجعل بطل روايته الأول (خوسيه أركاديو بوينديا) يباشر في بناء القرية بيتاً بيتاً، بحيث يصبح بإمكان كل سكانها الوصول إلى النهر بعدالة، والحصول على ضوء الشمس وتقاسم الحر بالعدل كذلك، في هذه القرية عندما كانت البدايات صغيرة جداً كانت هناك أشياء وحيوانات بلا أسماء، فكان الناس يعبرون عنها بالإشارة إليها بالإصبع، ثم كبرت القرية، غادرت هدوءها وعزلتها الخارجية لتعيش صراعات أبنائها وعزلتهم الخاصة داخل البيت الواحد.
وحين هبت العاصفة وجاء الطوفان واستمرت الأمطار لأربعة أعوام وشهرين بلا توقف، مات الكثيرون، وخشي من بقي منهم أن ينسى الناس أسماء الأشياء التي تعلموها، فصاروا يكتبون أسماء كل شيء ثم يلصقونها على الحيوانات والجمادات كي لا ينسوها، كانوا يكتبون (هذه بقرة، هذا باب، هذه شجرة.. وهكذا)، إنها الحكاية الأزلية القديمة لمعرفة الأشياء، لاكتشاف العالم، للتعرف على ما لم يكن معروفاً أو سائداً في الفضاء الذي نتحرك أو نعيش فيه!
وأنا أقرأ (مائة عام من العزلة) للمرة الثانية استعداداً لمناقشتها مساء اليوم في صالون القراءة بندوة الثقافة والعلوم، تذكرت تلك الأشياء الصغيرة التي عرفناها لأول مرة، كيف تعرفنا عليها، وكيف أحببناها، وكيف أصبحت جزءاً من تكويننا وذاكرتنا فيما بعد، كالسيارة مثلاً، الكتاب، المقهى أو الكوفي شوب، كوب الكابوتشينو، هل تتذكر متى شربت قهوة إيطالية بالرغوة لأول مرة؟
عن نفسي شربتها تحت الأرض في الممر الموصل بين الفندق الذي أقيم فيه ومستشفى مايو كلينك بمدينة روشستر بولاية مينوسوتا الأميركية، أما محل الكوافير أو مصفف الشعر فقد دخلته في الثانوية، واستخدمت أحمر الشفاه أيام عبث الاكتشافات المدهشة في الجامعة!!
المكتبة، واحد من أهم وأخطر الاكتشافات التي عرفتها في عمر مبكر، فبخلاف مكتبة الفصل والمدرسة، كانت مكتبة دبي للتوزيع ومكتبة دار الحكمة هما أول مكتبتين في دبي عرفت قدماي الصغيرتان الطريق إليهما، ومنهما تأسس عالمي المعرفي ووعيي العام، ومن المكتبة سافرت إلى الخارج عبر ركوب الطائرات، فكانت كراتشي عاصمة باكستان أيام الانقلاب على الرئيس علي بوتو هي أول وجهة سافرت إليها مع أسرتي أيام الدراسة الثانوية!
السفر بمفردي لأول مرة كان إلى بيروت في ذلك الربيع الجميل، أما أرض الولايات المتحدة فقد وطئتها قدماي سنوات الثمانينيات أجمل سنوات العمر والعلاقة مع العالم، وأن تقف في مواجهة تمثال الحرية والبيت الأبيض ونصب أبراهام لينكولن وحائط ضحايا فيتنام، فقد كانت تلك تجربة المعرفة الكبرى وتوالي أسئلة الدهشة!
نقلا عن البيان