بقلم _ عائشة سلطان
في الأزمنة العادية، حيث الأمن مستتب، وحياة الناس تسير بالطريقة المعتادة التي لا تشوبها شائبة، يميل الناس إلى إطلاق شعارات قوية وشديدة التأثير، شعارات أخلاقية أو قيمية في معظمها حول احترام الحقوق، وإشاعة الحريات، وضرورة التكيف مع الاختلافات، وضمان مساحة من المرونة لأصحابها، ليعبّروا عن رأيهم دون تجاوز منهم، ودون تشنج أو ردّات فعل غاضبة منّا، اتكاءً على شعارات كثيرة نرددها جميعنا بطمأنينة، تجعلنا نصدق أن الجميع مؤمن وواثق بإيمانه بما يقول!
وعند أول اختبار ينقلب السحر على الساحر، فيغضب الكل من الكل، ويتشنج الجميع في مواجهة أفكار من لا يتفقون معهم، وترى أولئك الذين لطالما نادوا باحترام حق الآخر في الاختلاف، وقد انقلبوا على قناعاتهم، وصاروا يطالبون بتعليق المشانق ونصب المحاكمات لمخالفيهم، وأحياناً لمجرد الشك والإشاعات، وتماشياً مع الجو العام الغاضب، وكأنه حين تغضب الجماهير على شخص أو فكرة أو جماعة، لا بد من تقديم تضحيات كبيرة بحجم ذلك الغضب لإسكاته وابتلاع همجيته.
لقد تكررت هذه المشاهد في السنوات الأخيرة أمام أعيننا جميعاً، تابعناها على الهواء مباشرة، وضاقت بها صفحات الجرائد اليومية، والأمر ليس بجديد، فقد حكى لنا التاريخ عن حدوث الأمر نفسه في الثورة الفرنسية، يومها كانت مجرد الوشاية المغرضة تقود صاحبها إلى حبل المشنقة، كما حق للمزاج الجماهيري العام أن ينقلب، ليس على الأشخاص فقط، وإنما حتى على القيم الكبرى والتوجهات النبيلة التي طالما تغنى بها ودافع عنها!
لقد أراد الفرنسيون الذين يقدسون الحريات اليوم، وفي النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أن يحظروا رواية «مدام بوفاري» لفلوبير و«أزهار الشر» لبودلير! هل نتصور ذلك؟ يبدو لنا الأمر اليوم سخيفاً وغير معقول، لكن ذلك حدث بالفعل، فالمجتمعات والناس تنقلب على قناعاتها بسهولة في أوقات الاهتزازات العظيمة، وتنقلب حتى على أعظم مبادئها حين لا تكون محصنة بالحقوق والوعي بأهمية الحريات، الأمر الذي يستدعي منا مواصلة الدفاع عن الحدود الفاصلة بين الحقوق والحريات باستمرار حتى لا تدخل الفوضى على الخط، وتتحول إلى قيمة لها احترامها للأسف!