بقلم : عائشة سلطان
بعد عدد كبير من الأسفار، والتنقلات عبر المدن والحضارات وصحبة الكثيرين والكثيرات وحكايات الناس الذين كانوا والذين رحلوا والذين لم يعد لهم أثر، تشعر بأنك ملكت واحدة من أكثر الخبرات الإنسانية حكمة وعمقاً، وساعتها تعرف أنك لا تسافر للنزهة والفرجة فقط، لا تسافر «لتغير مناظر» أو لتكسر الملل أو لتمشي في الطرقات وتشتري تذكارات مبهجة ستدفئ بها ذاكرتك في أيام قادمات، حين تستعيد ذكرى مدارات عبرتها كما تعبر حمامة وردية حدوداً ليست في متناول اليد بعد الآن، ستعرف أنك سافرت طوال عمرك لتعيش حيوات أخرى أضيفت إلى حياتك فأغنتها!
يقول لك صديق: كيف تسافر بهذه البساطة؟ أقول له: بل أسافر بعذوبة، وهذه تجعل كل الأشياء بسيطة وحلوة، وأعلم أنه لا يبحث عن إجابة، لكنه يعبر عن خوف ساكن في أعماقه من فكرة السفر، صار الخوف مع مرور السنوات كصنم يقف شرساً في عقله، لا يستطيع الخلاص منه، ولا فكرة أخرى يواجه بها هذا الخوف، ألم نقل بالأمس إنه حين تغيب الفكرة يسيطر الصنم؟
ويسألك جارك بشكل يبدو لك ساذجاً: هل تنصحني بزيارة هذه المدينة التي ذهبتَ إليها؟ أقول له: اذهب إلى مدينتك كي تعرف إذا مشيت كيف تمشي على بصيرة، وإذا بحثت عن شيء تعرف كيف وأين تجده، لا تذهب إلى مدينتي فربما لا تعجبك، فتعود لتلومني!
ويسألك أصحابك القريبون: كيف ستكون الرحلة إذا كنا معاً؟ أقول: ستكونون أنتم الرحلة وسأكون المدينة، سأعرفكم كما لم أعرفكم ونحن سادرون في ظل شجرة الحياة نخفي عن بعضنا أكثر مما نظهر، يجرّدنا السفر من قشرتنا، يُخرج أجمل وربما أسوأ ما فينا، وتحت سماوات محايدة يطلقنا السفر من قيودنا كلها، لذلك علينا أن نسافر مع أصدقائنا لنكتشف القارة السابعة، والمحيط الذي لم تبحر فيه سفننا بعد!
لديّ صديق لا يسافر أبداً، لم يخرج من مدينته، ساكن أبدي في فكرة الخوف من الموت في طائرة مغلقة كصندوق يحلق في فضاء مجهول فوق محيطات بلا حدود، لم يُفد معه أي دليل أو حديث أو إقناع، لذلك أشعر بالأسى عليه، وعلى كل من لا يتمكنون من السفر مع قدرتهم عليه، في السفر قدرة ورغبة في الامتداد، وفي رؤية حيوات كثيرة تضاعفنا، تكثرنا، تراكم في شخوصنا الكثير مما لا نتصوره لكننا نلمسه ويلمسه الآخرون، السفر يضاعفنا فنصير مكتشفين حقيقيين لذواتنا وقدراتنا ومكامن قوتنا وضعفنا ومدى اتساع إنسانيتنا، إن من لا يسافر محروم من إمكانية القيام بتلك الرحلات التوسعية داخل نفسه على حد تعبير أحدهم.
نقلا عن البيان
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع