عائشة سلطان
لا أدري فيما إذا كانت تلك حقيقة أم مجرد اعتقاد، هل صحيح أن المثقف وصاحب المعرفة العميقة والمبدع شخص قلق ومهموم بطبيعته وتكوينه النفسي المرهف والأقرب للحزن منه للحالة الاعتيادية التي يبدو عليها معظم الناس من حيث اللامبالاة وتقبل الحياة كما هي، أم أن الأمر نسبي ويعود لتكوين وتربية الإنسان لا لثقافته؟ على أي حال فإن صفة القلق الوجودي هي ما تسم المبدع والمفكر الحقيقي، وهو ما قرأنا عنه دائما في سير وحياة معظم المبدعين والمفكرين، ربما يعود ذلك لدوام التفكير ومراقبة الحياة وسلوكيات الناس سعيا للمثالية وبحثا عن الأفضل.
إن من يراقب الحياة أو الناس يمتلئ هما وقلقا بلا شك، ومن يسعى للكمال مثل من يركض خلف سراب، لكن المثقف لا يعترف بأن الحياة قد وُجدت لنتسلى بها حتى آخر لحظة، إنه يراقب الحياة ليغيرها لتكون أفضل وأكثر إنسانية كما يظن ولكنه لا يعيشها وهنا يكمن سر قلقه ووظيفته التي يعيش لأجلها.
المبدع أو المثقف شخص يعرف كثيرا وبالتالي يرى أكثر من غيره، وهذه البصيرة ليست سهلة إنها أمانة والأمانة عبء كبير وإن المفكرين والفلاسفة الذين اجترحوا معجزة الكشف ومخالفة القوانين السائدة في أزمنتهم قد أحرقت كتبهم وسجنوا ونبذوا وبعضهم قتل بدم بارد أو اتهم بالزندقة والكفر والجنون، ولم ينفعهم لاحقا تلك الكتب ورسائل الدكتوراه والنصب التي وضعت لهم تخليدا لفضلهم وعبقريتهم، لقد خسروا الفرصة الوحيدة المتاحة لهم للتمتع بالحياة في وقتها لكن البشرية كلها استفادت من تضحياتهم وهذه هي الفضيلة الوحيدة لذلك الموت المجاني لأولئك، الحياة لا تعاش لاحقا ولا يمكن تأجيلها أو تعويضها بعد فوات الأوان، يبدو المبدع وكأنه اختار من يعيش نيابة عنه، فهل يعتبر ذلك عدلا أو تعويضا مقبولا؟
إن من اختار واعيا وراضيا طريق المعرفة عليه أن يتحمل نتائج اختياره، والقلق أحد هذه النتائج وكذلك الشعور بالهم والتعب وعدم تقبل الواقع والرضى به كما يفعل غيره، هو يستغرب كثيراً كيف يصدق الآخرون كل ما يقال لهم، كيف لا يراجعونه وكيف يقتنعون هكذا بهذه البساطة، والآخرون يطرحون عليه السؤال ذاته محاولين إقناعه أنه لا فائدة أحياناً من مقاومة بعض القناعات حيث يملك الواقع القوة والنفوذ، أما المبدع فمقتنع بأنه لو لم يرفض كل أولئك المفكرين الأفكار الجاهزة أو لو لم يبحثوا ويضحوا ويقلقوا ويصارعوا لما أصبحت الحياة بهذا الشكل الذي نحياه.
يقع بعض الكتّاب والمفكرين في المرض وفي الاكتئاب وفي العزلة وأحيانا في الصمت والضيق إذا ما ألحت الفكرة في الخروج من رؤوسهم، وأن الكتابة هي التعبير الأقوى عن الفكرة التي قد تكون كالسهم الذي يشطر العقل الجمعي شطرين ليضع الجميع أمام تحدي البحث عن الحقيقة، وإن فكرة بهذه القوة من الطبيعي أن تقود صاحبها لما هو أكثر من القلق قبل ولادتها.