عائشة سلطان
يصر (راشد) في كل مرة يراني فيها أن يطلب مني رسم (سفينة نوح)! لماذا سفينة نوح؟ ربما لأنها السفينة الوحيدة التي سمع بها عن طريق المدرسة التي قصت عليهم في المدرسة الخاصة التي يتعلم فيها حكاية السفينة المعروفة والحيوانات التي حملها سيدنا نوح معه على ظهر السفينة قبل حدوث الطوفان العظيم، أتساءل دائماً كلما جلست لأرسم لـ (راشد) سفينة نوح: هل يستوعب طفل في الخامسة من عمره حكاية بهذا العمق العقائدي؟ أم أن ما روته لهم المعلمة أمور طريفة وبسيطة تتسق مع ذهنية الأطفال؟ لكن لماذا سفينة نوح إذا لم يكن المغزى عقائدياً صرفاً؟ كما أتساءل عن ارتباط السفينة بنوح تحديداً عند (راشد)، فهو يتحدث عن السفينة كمفهوم وكمعنى مرتبطة بنوح دائماً وكأنه لا سفينة أخرى في العالم أو في المحيط الذي يعيش فيه! مع أن راشد طفل ينتمي إلى البحر وإلى السفن تحديداً أكثر من أي طفل آخر في مدينته أو في مدرسته على الأقل! فهو من عائلة كل أجداده فيها أصحاب مهن مرتبطة بالبحر، بدءاً بجده لأبيه، وخاله لأبيه أيضاً الذي يعد واحداً من رواد صناعة السفن الخشبية في الإمارات، وانتهاءً بوالده قبطان السفينة.
في مثل سنه وربما أصغر كنا نقف على شاطئ البحر نلوح للسفن الراسية عند خط الأفق، ونشهد بمرح وصخب كبيرين الاحتفال الذي يتم فيه إنزال السفينة الخشبية الضخمة إلى البحر لأول مرة بعد أن يكون (الجلاليف)، وهم عمال صناعة السفن، قد انتهوا من آخر مراحل تشطيبها وإعدادها للبحر، وفي مثل سنه أيضاً كنا نقف على رؤوس الصبية الصغار وهم يجهزون ألواح الألمنيوم الكبيرة ليصنعوا منها سفناً يلهون بها في البحر، وفي مثل سنه لطالما ركبنا سفناً عبرت بنا للبعيد أو قوارب صغيرة حملتنا عبر الخور من ديرة إلى دبي والعكس!
للسفن رائحة حادة لا تحتمل عادة، وللبحر رائحة الملح والنوارس والأسماك والخشب، نحن كنا نعرف هذه الروائح جيداً، وحين نجلس بجوار أمهاتنا وآبائنا كنا نسمع منهم أخبار الأسفار وأسماء السفن وأنواعها، وكانت ورشة صناعة السفن قريبة جداً وتتوسط الحي، ومع ذلك لم نرسم سفينة، ولم تطلب منا المعلمة ذلك، ربما لو فعلت لرسمنا سفناً من كل الأنواع والأشكال، لكننا ما كنا سنرسم سفينة نوح لأننا سمعنا عنها في سن متأخرة!
يمضي الزمن ويتغير كل شيء، وأول ما يتغير هو نحن وأبناؤنا، هؤلاء الصغار الذين يعرفون كل شيء عن الخارج، لكنهم لا يعرفون كثيراً عن امتدادات جذورهم!