عائشة سلطان
جدتي، رحمها الله، كانت سيدة طيبة جداً ومكافحة ومتعددة المواهب، لكن أكبر مواهبها كان الطهي، تقول أمي إنها تضطر في بعض الصباحات إلى إعداد أكثر من نوع من الخبز مثلاً، وبسرعة وحرفية عالية، على الرغم من البرد الشديد في تلك الأيام التي كانت فيها البيوت مكشوفة على أفنية واسعة تجاور البحر، فبعض رجال العائلة يفضل نوعاً من الخبز، والبعض الآخر يفضل نوعاً آخر في الصباح، كانت صبورة جداً، وتحب تلبية طلبات أفراد عائلتها، لكنها حين تتعرض للضغط، كانت تضجر وتجاهر أولئك الرجال، وأولهم جدي بالغضب والعصيان لبعض الوقت، حين أحاول استخراج مخزون ذاكرتها، تفاجئني والدتي بأمور وبأخبار مفرحة، تبعث على الفخر، وأحياناً الاستغراب!!
لماذا يقولون إنكم كنتم تعيشون في فقر وشظف إذن؟ هذا لا يتسق مع امرأة تعد نوعين من خبز الفطور مثلاً؟ ألا يعتبر ذلك ترفاً بعض الشيء؟ تقول لي لم نعانِ العوز ولا الفقر، وتحمد الله بين الجملة والجملة مراراً وتكراراً، كان الرجال يخرجون في مواسم غوص تطول أحياناً، لكنهم يعودون بالخير، وفي الأيام التي لا يكون فيها غوص، يخرجون للمزر أو صيد السمك، أما عندما هجروا الغوص فقد ذهبوا إلى الدول المجاورة للعمل في (كامبات) الإنجليز كما تقول، كانت هناك معسكرات في حقول النفط وسط الصحراء، وكان هناك من يعمل في المدينة، كانوا يرسلون لنا أموالاً جيدة وكانت حياتنا طيبة، كنا نعيش في بيوت فارهة ونسافر (للمقيض) شرقاً في شهور الصيف طلباً للماء وفاكهة تلك البلاد!
كيف تعلمت جدتي الطهي؟ من علمها؟ اسأل أمي، تجيبني أن البيوت عادة ما كانت كبيرة، وتعج بنساء كثيرات ورجال كثر، كانوا كقبيلة كاملة تسكن بيتاً واحداً، كانت هناك نساء أتين من مدن بعيدة، يعرفن أموراً لا نعرفها، كنا نعيش معاً وتعلم الواحدة منهن الأخرى، كنا نتعلم بشكل مباشر، خاصة حين يكون لدى الفتاة استعداد فطري للتعلم، جدتي لم تتعلم الخياطة، كانت تميل للطهي أكثر أو ربما وجدت نفسها منساقة لتلبية احتياجات البيت أكثر من الأمور الأخرى التي تكفلت بها نساء أخريات، ذلك يشبه نظرية المجتمع متكامل الوظائف، تماماً كما في المجتمعات أو التجمعات الزراعية مثلاً، كل فرد يتكفل بوظيفة معينة، هذا قاد لاحقاً إلى مراكمة حس المسؤولية الاجتماعية، والتعاون في مجتمع الإمارات والذي تأصل في أفراده حتى اليوم!
توقفت عند مسألة النساء اللواتي ينتمين لثقافات مختلفة، ويعشن تحت سقف واحد في بعض البيوتات قديماً - أتكلم عن مجتمع ديرة على الأقل، حيث عاشت عائلتي ولا تزال - فهذا الأسلوب في الحياة أو لنقل هذه الثقافة ما كانت لتوجد لو لم يكن هناك أناس يمتلكون ذهنية منفتحة على الآخر المختلف عنه ثقافياً، وكوننا كنا نقع على البحر مباشرة، ويعمل رجالنا أغلب العام في مهن تتعلق بالبحر مباشرة، فقد نما وتكرس فينا هذا الانفتاح والميل لقبول الآخر ثقافياً وفكرياً، والتعايش معه والأخذ منه بأريحية كاملة!
نحتاج أن نكتب عن تفاصيل حياة النساء قديماً، ففيها الكثير مما يجب أن يُقال ويُعرف!