عائشة سلطان
أنت تمعن في الغفلة واللامبالاة بالأيام وبالسنين، هي تمر مر السحاب خفيفة وسريعة كطائر مهاجر جاء من مساحات الصقيع إلى أرض دافئة، لكنه حتما سيعود من حيث أتى، فلا تتعلق بالطائر ولا تقع في غرام الشجرة، فحين يرحل الطائر يخيل إليك أن الشجرة لم تعد خضراء ولم تعد ممتلئة بالورق والأغصان، هكذا يمر العمر، أنت فقط من يعتقد بأنه مر سريعا، هكذا تظن، أو هكذا تسول لك نفسك، والحقيقة أن العمر لم يمر لا سريعا ولا بطيئا، تماما كتلك الشجرة التي لم تتغير خضرتها ولم تفقد كثافة أغصانها، هي فقدت الطائر كما فقدت أنت شغف الأيام !!
تعال أحدثك عن عمرك الذي وجدت نفسك وقد تسرب منك، وإلى سنينك وكأنها هبطت على شهادة ميلادك من الفضاء وتسللت إلى جسدك من ثياب جدتك، كأنك كنت طفلا يركض صباح البارحة بكامل طيشه غير مبالٍ بشيء وغير فاطن للزمن وخلافه، وحين فتح عينيه هذا الصباح فوجئ بكل شيء: بثقل جسده، بالخدر الذي يسري في عمق روحه، بتغضنات عنقه وأيامه المتصلبة، دعني أقول لك بماذا صرت تشعر: لقد أصبحت تفقد شهية النهوض من سريرك، تستسلم للكسل والصمت، لا شيء يدفعك للنهوض ومغادرة المنزل هذا شعور قاتل، مخيف وابن ستين لعنة، لا تستسلم له !!
أنه العمر في قسوة رحيل فتوته، اللحظة التي يصير عمرك ككأس نصفها ماء ونصفها هواء، ترى بأم عينيك انطواء الأحلام كطي السجل للكتب، ترى بعين قلبك كيف يغادرك شغفك بالحياة والمتع، مفضلا الدعة والراحة والهدوء أكثر، تعرف دون أن تعترف أنه قد ذهب الأجمل والأكثر نزقا وبقي الأكثر تعقلا وحكمة وترددا.. قالت أمي منذ سنوات أهلكتني السنين، كسرتني، صفعتنا وسمرتني في منتصف المسافة بين أحلامي وبيني، سرقت شعوري بالدهشة وبقايا الطفولة، وضعت مرآة كبيرة أمامي وجعلتني أنظر باتساع عيني لما لم أتوقعه ولم أرغب فيه، لهذا الذي جاء سريعاً وجاء مباغتا !!! قاسية هذه السنين قاسية حد التفكير في هجرة كل شيء والرحيل إلى أي مكان بلا سنين !!
تصحو كأنك لم تنم ليلة أمس، كأنك نمت منذ زمن أو كأنك سُرقت! يدك ليست التي نمت بها، ولا صفاء بشرتك ولا صوتك، أحدهم سرق عصافير قلبك وأنت نائم.. أنه العمر.. رائحته تنتشر في سريرك، في طيات ملابسك وفي أطباقك وأكواب الشاي.. لا فائدة لا يمكن إزالة آثار بصماته على الشوك والملاعق وشراشف السرير.. ولا حل.. ماذا تفعل إذن، ماذا فعلت في آلاف النهارات والليالي التي عبرت خلال كل الأعوام الماضيات؟ سؤال بحجم عمرك؟ ماذا يمكن لشخص يعيش في ثقب أسود كجنرال ليس له من يحادثه أن يفعل أو يتمنى أو يفكر..
أن يصطاد سمكاً متعفناً أو يترك ظله على إسفلت الشارع تحت عجلات شاحنة وينطلق خفيفاً كهواء.... !