عائشة سلطان
في أحد فصول الدراسات الإعلامية، كان النقاش محتدماً بين طلاب الدراسات العليا والدكتور، كان كثير من الطلاب يعملون في الصحافة ومؤسسات إعلامية أخرى، ولديهم خبرة لا بأس بها بالممارسة التطبيقية للصحافة أكثر مما لديهم من النظريات.
حاول الأستاذ إقناعهم بفكرته لكن حماستهم كانت طاغية، كان يقول لهم: إن الحرية هي أول ما تدفعه الصحافة حين يكون الأمن مهدداً، لا حرية في أوقات الحروب والأزمات والثورات، وفي البلدان التي تحكمها أنظمة قمعية، ولا حرية حين يتحاور معك شخص لم يترب على غير القمع ومصادرة رأيه ومسح كرامته وتشويه شخصيته، مع ذلك فالحرية مقدسة، والرأي مقدس، وحتى حين يحاورك شخص يخالف رأيك عن جهل أو عن رغبة في المخالفة لا أكثر أو لأنه يعرف أكثر منك أو لأن له رأياً مغايراً مقتنعاً به فإنه يمكنك أن تحتفظ بحقك المطلق في الرفض والقبول أو عدم الرد أو الرد والتفنيد، فإذا كنت إنساناً مسؤولاً بشكل حقيقي فإنه لا يحق لك أكثر من ذلك، أكثر من ذلك سيقودك لساحات المحاكم أو لمكان آخر لا ترغبه!
الحقوق يمكن أن تكون ترفاً أحياناً حين تواجه المجتمعات ظروفاً أمنية تهدد وجودها وحياة أفرادها، نحن نتنازل عن حق من حقوقنا بوعي تام مقابل هدف أكبر، وحرصاً على حقوق أعظم، ذلك في الحالات الحرجة والحساسة، لكن في الحالات الطبيعية حرية الرأي ليست ترفاً وحقوق الآخرين كذلك، والذين يشتغلون بالإعلام أول من عليهم أن يؤمنوا ويعوا بذلك، حتى حين تكون بصدد فضح فساد أو كشف تلاعبات معينة لا يحق لك أن تلجأ إلى سلوكيات لا أخلاقية للوصول إلى هدفك، لا يحق لصحفي أن يسجل حديثاً لشخص من أجل أن يذيعه لاحقاً كدليل ضده ما لم يكن مخولاً أو لديه تفويض قانوني بذلك، على الإعلام أن يكرس قوته، وتحديداً في موضوع حرية الرأي والتعبير، بشكل حقيقي وبمواجهة علنية مع مراكز النفوذ وليس بالتحايل!
البعض يعتبر الحديث عن أخلاقيات الصورة مثلاً نوعاً من الترف في زمن داعش والقاعدة والإرهاب والتطرف، لكن علينا كأشخاص نشتغل بالصحافة، ونتعاطى الرأي، ونسمع كثيراً، ونسافر ونلتقي ونقرأ، أن ننظر للأمر بشكل صحيح، الصورة كما يرسمها البعض مقلوبة تماماً، الصورة أو العبارة الصحيحة هي أن داعش والقاعدة والإرهاب والقتل والتطرف ملأ عالمنا العربي كما نراه اليوم، لأننا لم نكرس الحريات بشكل سليم، ولم ندافع عن الحقوق بطريقة واعية ومنهجية ومتجردة.
معظم الإعلاميين في كثير من دولنا حولوا الإعلام إلى رغيف خبز، وشهرة، ومصالح، وعلاقات مشبوهة وتسريبات و.. وما عاد أحد يدافع عن حق ولا يرسي واجباً أو مبدأ، ثم يخرج أحدهم ليقول نحن لا يمكننا أن تكون لدينا صحافة حرة كأميركا، ذلك مستحيل! طبعاً مستحيل، لأن الصحافة في أميركا أجرت أول محاكمة لما يسمى حرية الصحافة عام 1735، واستمرت في مراكمة إنجازاتها بقوة وإيمان على الرغم من وجود مرتزقة في كل مكان!