ناصر الظاهري
كان الشيخ مجرن يضع على عينيه المجهدتين نظارة طبية سميكة، لم يعرفها الأهالي في العين، فجلهم لم يفك حرفاً، ولا عرف قلماً، ولا أتعب عينيه في طلب العلم وسهر الليالي، ثم أن من يضع النظارات الطبية قليلون في ذاك الوقت، ويعدون على أصابع اليد الواحدة، منهم الدكتور كندي، وعبدالله كشيمات، سائق « شفرليت» الأحمر المكشوف الذي ارتبط اسمه بمسمى النظارة بالعامية « كشمه» وكانت مختلفة عن نظارة الشيخ مجرن، حيث كانت غامقة، وتغطي الوجه، واستعمالها كان بمثابة الزينة، واتقاء الهواء الذي يهب من نافذة «شيفرليت» المكشوف.
كان الشيخ مجرن مثالاً للالتزام، والعفوية، وعدم التعصب، وتشديد المسائل على الناس، كان يقربها لفهمهم البسيط، ويصيغها بلهجتهم التي يعرفون، كان مثل الناس لا يتميز عنهم بلبس، أو بمظهر، أو علامة، شأن رجال الدين اليوم، كان يرتدي ثوباً خفيفاً أبيض، وغترة مرددة كيفما كان على رأسه، وحين يشتد علينا البرد يتدثر بصديري، وقلما كان يضع عقالاً على رأسه، كان غاية في البساطة، وهدوء الحال، تماماً مثل مشيته التي تشبه سير الظل البارد، لا مثل وقع الأقدام الحافية التي تدك في الحارة، ولا تلك الخفوف التي كانت ترد الفلج قبل أن ينسرب إلى العامد وقت الضحوي.
كان خفيف اللحم، نحيف البُنية، عليه سيماء العارفين، وصبر الورّاقين والخطاطين، لقد ظل على تلك الهيئة، لا تختلف صورة الذاكرة القديمة، عن صورة اليوم في العمر المتأخر، رغم كل مسافات العمر الذي تخطت المائة بعشر سنين، وأنحنى الكتف قليلاً، وما عاد يمشي مشواره اليومي، وغادر إلى مكان آخر من مدينة العين التي كان يعرفها مثل كفه، تماماً مثلما غاب صديقه وجاره أحمد المهيري الذي كان يجسد الطهارة والصلاح، والكلام القليل، كان وضيء الوجه سمحاً مثل جاره الشيخ مجرن الذي كان مقصد الناس حتى ولو احتاجوا لمشورة دنيوية، لا دينية، كان محل ثقتهم، ومصدر استحسانهم، لا ينفرّ، قدر ما كان يبشّر، يسعى الناس له، فيسعى لهم بالخير والمودة، وطيبة الإنسان حين
يرفعه العلم، فيكبر في عيون الجميع.
تذكرت الوقت الذي انقضى، والناس الطيبين الذين يهزنا وداعهم، ومثلما أحب الشيخ مجرن العين وعاش وطرها الحلو، احتضنه تراب العين، وسجى فيه جسد الشيخ الجليل، محتفظة بكل تفاصيله، وجميل أشيائه، وعطر عطائه، وبخط سيرته، ووئيد سيره الذي كان يشبه سير الظل البارد باتجاه نخيل لها رائحة الناس الأولين.. الطيبين.