ناصر الظاهري
ظل عنترة والمتنبي رقمين صعبين في التاريخ الإنساني، وفي رؤوس الناس، وقلوبهم، رغم فنائهم، لكن شخصيات حيّة مثل عنترة والمتنبي، يجب ألا يعيشا طويلاً، ودهراً مديداً، لكيلا تهزمهما الشيخوخة، وتظل شخصياتهما تتهاوى كل يوم في عيون الناس، نتيجة ضريبة الهرم والكبر والخرف، لذا كانت نهايتهما أسطورية، وتتناسب مع حجم الحياة التي خاضا غمارها، وجبروت معيشتها، وجلدهما فيها، فعنترة تصيده رام أعمى، كان يسير على دبيب الصوت، ويميز وقع القدم من وقع الحافر، خَتّ له زمناً، وتبعه وقتاً حتى لبد له مرة ليلاً، فسمعه خارجاً من الحي وحده، فسار خلفه، وحين توقف عنترة، خَتَلّ له وراء رمثة بريّة، فأيقن أنه توقف ليقضي حاجته، ويهرق الماء، فتحين له وقتاً، وحين سمع شخيب مائه على الأرض في ذلك الليل الساكن البهيم، رماه بسهم مسموم لم يخطئه، فأصابه في مثانته، وكان مقتله الذي بقي يصارعه أياماً، حتى أنه يقال ظل جالساً متكئاً على رمحه، منتظراً موته، يسمع حمحمة حصانه الأبجر، فصدف أن قوماً أرادوا غزو بني عبس، فلما وصلوا ورأوا عنترة من بعيد غارزاً رمحه في الأرض، أصابهم الهلع، ورجعوا، فقالت العرب: حميت قومك حياً وميتاً، ويقال: إن قاتل عنترة هو وزر بن جابر الملقب بالأسد الرهيص النبهاني، أما المتنبي، فكانت موتته أيضاً ملحمية، وذلك حين علم خال ضبّة فاتك بن جهل الأسدي، بما فعلت قصيدة المتنبي حين هجا أخته، وابنها ضبّة بتلك القصيدة التي كان المتنبي يكرهها وتمنى لو أنه ما قالها:
ما أنصف القوم ضبّة وأمه الدردحبّة
أقسم أنه لقاتل المتنبي لا محالة، فتصيده، وهو راجع من مدينة شيراز في طريقه إلى بغداد، وكان محملاً بالهدايا والطيب، والحرير، والكتب الثمينة، والخلع النفيسة، وحينما اقترب من منطقة تسمى دير العاقول خرج عليه فاتك مباغتة، ومعه جماعته، وهاجموا المتنبي ومن معه، ويقال: إن المتنبي حاول الهرب، لما أحس بالهزيمة، فذكّره غلامه مفلح بقصيدته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال المتنبي: قتلتني، قبل أن يقتلني القوم! فعاد أبو الطيب فقاتل حتى قتل، وقتل معه ولده محمد، وكثير من جماعته، ونهبت أمواله، لعلهما نهايتان تليقان بتلك الشخصيتين اللتين بقيتا على مر الزمان تذكران: عنترة كان أول الفرسان المتصدين، لكنه كان يَعفّ عند المغنم، والمتنبي كان مالئاً الدنيا، وشاغلاً الناس، وصدق الشاعر: الناس صنفان: موتى في حياتهم، وآخرون ببطن الأرض أحياء.