ناصر الظاهري
توفي سادن الدار البيضاء، وأحد حرَّاس أبوابها، توفي الطيب الصدّيقي، تاركاً مدينته تضج بناسها، وأوجاعها، وتتمدد على نفقة عشاقها، ومن رأى الطيب الصديقي يجوس في تلك المدينة، وحبوسها، ودرب السلطان، ويعرف أين يسكن الفقراء، وأين يمكنه أن يقبض على صعاليكها، ودراويشها، يدرك أن له حضوراً في المكان، وحين جلت معه مرة في أزقتها، وأماكن الفرح فيها، مرتدياً عباءته السوداء المبخرة بالعود، وكحل يخط العين، تاركاً لحيته وشعره الطويل المخضب بالسواد والبياض، وسيكار لم يتخل عنه طوال حياته، متعكزاً على عصا، يقول إن له فيها مآرب أخرى، قلت له: أشعرتني أنك عمدة كازا، فرد بصوته المسرحي الجهوري، قدمت لها الكثير، وقدمت لي الكثير، فحق علينا أن نتحابا، ونمضيا بعشقنا للتوحد الصوفي.
فرضت مستجدات الحياة ذلك البعد، فالجغرافيا لها نصيبها حين تستقر به في نهايات الشمال، ولا يجرب هو الريح ومراكبها، وتباعدك أنت في مسافات الجنوب، ولا تكل من ترحال كطائر وهب جناحيه للريح والمدى، ثم أن هناك شخصيات تفضل أن لا ترى شيخوختها التي تشبه رماد الخريف، وهو الذي كان كحل العين.
كنت التقيت به لأول مرة في بداية التسعين في دارته الجميلة، وترحاب زوجته الأجمل، كانت أمسية أخرجها مسرحياً كيفما يشتهي، ضمتنا مع الصديق السعودي المرحوم صالح العزاز، وحسن العلوي حاكم فريموس، وأحد المسرحيين، كانت سهرة ثقافية ممتعة، ونقاشية ساخنة، تخللتها موسيقى، وأطايب الدار، تجادلنا في تفسير سورة الكوثر، واختلفنا على زيارة «رابين» لبيته، كان التاريخ والمسرح والسينما، ومدن الحرية والنور هناك، ويوم عيد ميلاده أحضرنا باقة ورد لا تدخل من باب البيت، كانت تعجبه الحركات المسرحية، وهو الذي ابتكر مسرحاً مغربياً جديداً، كان طلقاً، وفي الأسواق، وساحة جامع الفنا بمراكش، جذب المغنيين في الأحياء الفقيرة، وقدمهم للناس، كفرقة «ناس الغيوان»، وجل جلاله، اعتمد على التراث والإرث العربي، كمقامات عبد البديع الهمذاني، وخالط بين العربية والدارجة المغربية، كان مقلاً في السينما، له فيلم «الزفت»، ودوره المميز، للوليد بن عتبه في فيلم «الرسالة»، لكنه ظل يشككني أنه هو، حتى كدت اقتنع بكلامه.
كان وقتها يجرب العمل الفني البدائي للإنسان على الخزف والفخار، ويزينه بالخط العربي أو الحروف الأمازيغية، وأهداني جرتين.
بين «الصويرة» تلك المدينة التي ولد فيها الطيب ابن رجل العلم والدين إلى الدار البيضاء، حيث أضواء المسرح والشهرة، ومحاولة اكتمال نضج معرفة الإنسان، مضت تسع وسبعون سنة مما يعدون، لكنها أَرَّخت لهذا الفنان الكبير.. لروحه السكينة والطمأنينة، والحب المشفوع بالصلوات.