بقلم : ناصر الظاهري
دمشق.. وإن بكاك القلب فأنت شطر القلب.. بل والقلب أنت.. دمشق والدمع يخضب قدميك، ولا دمع إلا لك، تاج العُرب، وعمائم العز أنت.. أبكيك، وإن بكيت، فلا أبكي زمني ولا أهلي، ولا عرق خَيل الفتح، ولا سورة النصر.
ليت عيني ما رأت، ولا عشت وقتاً أشهد نحيب السيف اليعربي، ولا العمائم المُسدَلة على صدور بني أمية، ولا حدائق الياسمين المطوقة برماد الرصاص، ولا نطق الضاد الخرساء، يالَضيعة تاريخ سطره العرب، دمشق.. وحين نقول دمشق يفز ما في الصدر وينكسر.. دمشق، وإن بكت دمشق يئن الضلع الأعوج من وجع، ومن ألم، دمشق، أين الليل والسهر والصدق والشعراء؟ أين الأصدقاء؟ ما برحوا يغنون ليلهم وليلاهم في دروب النجم وما هوى، أين السفر؟ لا الدروب موصلة ولا النجم هادٍ ولا القمر، تائهون على ضفاف الشط وبرد المهجر، غارقون في البحر، دمشق، وإن قالت البيداء والفيحاء تلك كانت حاضرة، وهل غير دمشق هي الخبر؟ أحن لطيب الماء، وظل بردى، والعنب حين يعتصر.. دمشق، وحين أبكيك، أبكي الشام، وعرباً ذلّهم عجم.. أبكي جرح قلب منفطر.. دمشق، وإن طافت النوائب بِنَا فليل العجز ينهزم.
ما أبعد الشُّقَّة.. وزمنٌ يطوي زمناً، ولا بقايا إلا خرائب الوقت، وما صنعت أيدينا من رِجْس، ما أبعد دمشق التي علمتنا حروف الهجاء، وبداية التمتمة بالحب، وخطوات الحبو، ما أبعدها تلك المدينة الغافية على حبر الزمان، وطروس الحكمة، وقرطاس المعرفة، ما أبعدها تلك المدينة التي احتضنت الخارجين عن وشم القبيلة، والمارقين عن النص، والمجتهدين بالعقل، وصعاليك البراري الذين يقتسمون اللقمة مع الفقير، ومعنى الشرف، ما أبعد دمشق التي تنادي، ولا حبيب، ولا قريب، ما أبعدها اليوم، وهي مأوى للبعيد والغريب، وكل من لا يعرف أمه، ومضيّع في التيه أباه، دمشق، ودمع العين ينهمر، من غصة، ومن شَرَق، ومن حرقة العطش والجمر.
دمشق.. وليت الباكيات النائحات على قبر الوأد، ونعش المجد، وليت المنهزمين من وقتهم، الهاربين من زمنهم، وليت ظلال من مروا بغطرسة خيلهم، وليت الأماني والأغاني وفرحة العمر، ليت كل ذاك يوقف ويتوقف عند عتبة حزنك، وجسارة صمتك، وما تفعله الريح حين تشتد الريح على قامة أصلها الأرض.
دمشق.. والسنون تمضي، ولا كحل للعين، ولا إثمِد، شقوتنا أنك أنت العين، وأنت النظر، دمشق ولا وَلَه يتسع لصدر عاشق، حين تغيبين تحت صَلْي الرصاص، ولا عود ولا نغم ولا رنّة وتر، دمشق.. آه.. لقد ابيَضَّت العين من رَمَد.