ناصر الظاهري
يكذب الإنسان فيصف كذبته بالبيضاء، ويكذب إنسان آخر من باب التجمل والملاطفة، وإصلاح ذات البين، ويكذب الإنسان أيضاً لكيلا تكبر مشكلة ما، فيسدها بذريعة الكذب على الماشي، غير أن بعض الناس يكيلون الكذب كيلاً، وإذا لم يستفتح يومه بكذبة كبيرة ليصدقها آخر المساء، فإن يومه ليس بيوم فأل، ولا يجب أن يعد من سنينه، بعضهم يستنشق الكذب، وكأنه جزء من أكسجين الحياة، يربي بطولات وهمية، وعنتريات، ومغامرات نسائية تفوق الوصف، وكأنه قدّ من نسج ألف ليلة وليلة، بعضهم يسافر ليومين ويحكي لك عن شجاعات، لو قضى شهراً ما أنجزها، حتى يكاد أن حسبت له، ووقفت له على نبرة، فستجد وقته كله مغامرات، وسباحة في الفضاء، وطيراناً على أجنحة الريح الكاذبة، حتى لن تجد له وقتاً كان يتنفس فيه، هؤلاء تستطيع أن تسميهم، كما كان يصفهم أهل الدار القدامى بالريح، أو الكوس، أو الموح.
لكن في قرية صغيرة في جنوب غرب فرنسا تسمى «مونكرابو» لا يزيد عدد سكانها على الألف، شاهدت فيها مرة مهرجاناً لاختيار ملك الكذابين، «Le Roi des menteurs»، كان يقام هذا المهرجان الظريف في جو صيفي آسر، حيث يقام في الأول من أغسطس، وكان في الأساس مهرجاناً قروياً يقيمه البرجوازيون والقساوسة في القرن السابع عشر الميلادي، وأصبح اليوم مهرجاناً عالمياً، تشرف عليه أكاديمية «الكذابين»، وعددهم أربعون كذّاباً، ولا يصل لهذه المرتبة الأكاديمية إلا من كان كذّاباً أشِر، أو من دهاقنة الكذب، وأساطينه، كل شيء متاح للفرجة، وإرواء العطش، واستدعاء الضحكة، والتمتع بإجازة غير عادية، وإسكات الفضول والدهشة، لكن ستدرك أهمية التمييز بين الصدق والكذب.
في هذا المهرجان الذي يرتدي فيه المحكمون أزياء شبيهة بأزياء «بابا نويل»، أو «الكريسماس»، يمنع دخول كل شخص يحب قول الحقيقة في حياته، ولو كانت لمرة واحدة، وكان الترحيب بالكذابين في جو موسيقي وترفيهي، أشبه بالكرنفال الشعبي، والكذب كما يعرفه الناس مراتب، أقله من يكذب على زوجته، وأكبره من يمشي متسربلاً بالكذب، لم يعرف الحقيقة يوماً، ونقول في عاميتنا: «يلوص اللوّاص»، و«يخرّط الخَرّاط»، و«يموح الموح»، و«يهلّ الكوس».
مهرجان الكذب له شعار واحد، وقسم واحد، وهو عكس اليمين التي تحلف في المحاكم، فعوض أن تضع يدك على كتاب مقدس تضع إصبعك تحت عينك، وتفتحها قليلاً، على طريقة الفرنسيين حين لا يصدقون حديثك، ويريدون أن يتهموك بأنك كاذب بطريقة دبلوماسية... ونكمل