ناصر الظاهري
عجباً أن نجد في عصرنا الحديث مهناً جديدة، لم يعرفها السلف الصالح، ولم يعِها الخلف التابع، ولكن ابتلينا نحن بها، كما ابتلى بها عصرنا، مهنة المفتي الفضائي، فهل نحن منتبهون للمفتين الفضائيين، وبائعي الوهم والأعشاب والحجب، ومدركين دورهم وأثرهم وخطرهم على المجتمعات؟ وهل التنصيب لهذه المهمة آت من قناعة عند القناة الفضائية، أو الجهة التابعة لها بهذه الشخصية العلمية الدينية، ومكانها ومركزها الاجتماعي؟ حتى ألفينا نرى هذه القنوات تتبارى في استقطاب هؤلاء المفتين، فالقناة التي تتسم بروح شبابية، تجدها تصر على تواجد المفتي بالبدلة أو اللباس «السبور» والذي يحادث الشباب بلغة العصر ومعاني مصطلحات اليوم واهتمامات الجيل الجديد، والقنوات التي تفّح منها روائح المسك والكافور وحبة البركة، تجد المفتي بالجبة والعمة والسبحة، يتفيْقه بكلمات مغبّرة وعفا عليها الزمن، وأدواتها لم تعد تستعمل في وقتنا وحاضرنا، وتجد القناة ذات التوجه السياسي، تحرص على مفتٍ مؤدلج ومسيس، ولا يمنع إن كان منضوياً في يوم من الأيام تحت لواء حزب سياسي وديني محظور، والقناة الفنية، تحرص على مفت يعرف الفنانات، وساهم في تحجيب وحجب وجوه نسائية فنية، وأصبح مرجعاً لهن في كل خطوة يخطينها، وخاصة العمرة بعد الحجاب، والقناة ذات الشهرة والحظوة عند المشاهدين، تجدها تحرص على مفتٍ نجم له شهرته وصيته الإعلامي.
لقد أصبح دور المفتين الفضائيين أنهم يشرّعون للناس خارج الحدود، وخارج مياههم الإقليمية، ويسيّرون أمور الناس عن بعد، حتى أنهم أحياناً كثيرة يفتون بأشياء قد لا تسمح بها قوانين بلد القناة الفضائية والبلدان المجاورة، ويحرضون الناس ويشحنونهم تجاه موضوع معين أو قضية بعينها، فتجد صدى من الناس بتبني وجهة نظر مفتي القناة الفضائية سرعان ما يصرخ به الشارع، وتسكن كل البيوت!
أصبح هؤلاء المفتون يحكمون ويسيّرون دفة الأمور من خلف كواليس القنوات الفضائية، وأصبح لهم حضورهم القوي في الشارع وفي بيوت الناس وعقولهم، وأكاد أجزم بأنهم لو أرادوا أن يوجهوا قضية ما باتجاه معين، فإنهم قادرون على ذلك، ولو كانت تلك القضية تلقى معارضة رسمية أو هناك تباين في وجهة النظر بين الشارع والحكومة!
وجود مفتي القناة الفضائية الجاهز والمستعد والمتحفز لكل قضية حياتية، يضعف القانون، ويرهل مؤسسات القانون، ويجعل الناس تتبع النقل قبل العقل، وتتبع الشفاهي قبل المكتوب والمنصوص، ويجعل من لسان المفتي هو الصادق والموثوق والمؤتمن..
بعضهم يولم عند خوان معاوية، ويأتم بصلاة عليّ!