ناصر الظاهري
بالرغم من الفارق العمري بيني، وبين أحمد العبيدلي - رحمه الله- إلا أنني كنت من المحظوظين بمعرفة الرجل، والتمتع بجلساته، وتحليلاته السياسية والاجتماعية، وحتى فيما يخبئه من قصاصات صحف ومقالات في جيبه، وتعليقاته الساخرة والتهكمية، ونكاته التي بلا سقف أو حدود، كنت ألتقيه هنا..
وهنا، وهناك في الأسفار، وفي مقر إقامته شبه الدائم، لندن، وآخرها زيارة له كانت في منزله اللندني، وكم حزنت يومها حين رأيت «أبو نزار»، وقد ثقل الجسد، وما عاد ليتحرك إلا بذلك الكرسي المدولب، تدفعه مرات تلك الفلبينية المخلصة، ومرات سائقه، لم يعد ذلك المتقد، والذي يتحلل أول ما يجلس من تلك الغترة أو يرميها بإهمال على كتفه، ويلعب بشعره الطويل الكث، ويرمقك دائماً بعين العارف الذي يخبئ أسراراً، كانت جلسات ومسامرات «أحمد العبيدلي» لا تخلو من معرفة وثقافة، وسعة اطلاع، ومعاصرة لأحداث سياسية، فقد جاء إلى أبوظبي من البحرين في فترة متقدمة في الستينيات إنْ لم يكن في أواخر الخمسينيات، وعمل مع المرحوم الشيخ شخبوط، وارتبط بالشيخ زايد، طيب الله ثراه، وعمل مع صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، وخدم الإمارات، وأبوظبي، كان في بدايته مترجماً حتى أصبح مستشاراً، وهو شاهد عيان على الإرهاصات الأولى لقيام دولة الإمارات مع معالي أحمد خليفة السويدي، أمد الله في عمره، ومتعه بالصحة والعافية، ومعالي مهدي التاجر، وشهد الاجتماعات الأولى للاتحاد التساعي والسباعي، وإعلان الدولة، عين في لندن عام 1974 في مناصب عدة، وأوكلت له مهام عدة، وظل لفترة طويلة قبل أن ينتقل لأبوظبي مستشاراً.
كان «أحمد العبيدلي» حتى بعد تخطيه الثمانين حولاً، لماحاً، متقد الذهن، ولا تغيب عنه الأشياء، لكنه ظل يكيل اللوم على ذلك الطبيب الذي عبث له مرة بعظام في الظهر، ولم يطب بعدها، كان يأخذ كثيراً من الأمور، خاصة في آخر سنواته بسخرية سوداء، ودونما أي سقف للرأي، لقد رأيت «العبيدلي» مرة باكياً، وينشج مثل الأطفال، يومها كانت وفاة الشيخ زايد، وظل يقول لي: حينها شعرت بأن الموت قرع بابي.
لقد حاولت أن أسجل «للعبيدلي» عن أيامه، وذاكرته، وشيء من مذكراته، وعمل فيلم تسجيلي عنه، كمشروع أؤرخ به عن الرجال، لكنه كان يسوّف، ويطيل، ويتعذر، وحين أراه يضع اللوم عليّ، فلا أملك إلا أن أبتسم، فيناظرني بعين أعرف مغزاها، ويبتسم، فلم أظفر منه إلا بالتدوين القليل، لكنني كسبت في الحياة معرفته.