بقلم : ناصر الظاهري
كانت ساعة كافية أن توقظ محارباً قديماً مازال يحمل سيفه الخشبي، متدثراً بثياب الميدان العتيقة، ليحارب قلاعاً وحصوناً في الذاكرة، كانت جلسة كافية أن تشعل الأشياء القديمة الساكنة، ولتنفثّ النار الزرقاء المقدسة تحت أجنحتي المولعة بالرقص والريح والسفر والجنون.
بعد تلك الساعة، ركبنا السيارة الخضراء «الميتالك»، «بي. إم. دبليو» أو كما كان ينطقها الفرانكوفوني شوقي عبد الأمير: «بي. إم. دوبل في»، والتي تحمل الرقم الأخضر «7575»، والذي يذكره كثيراً برقم باريس ولوحاتها، قاصدة المطار، لم يكن يعرف أنني أعشق المدن التي يعشقها، بغداد حيث الصدق والشعر والنخيل والأصدقاء، البصرة التي تشبه مدينتي في النخل والبصر والعين، وتلك اللهجة المنداحة بحنو، والغافية على وجه نهر، وقارب وبيوت من قصب وخوص، باريس حيث الرقي في كل الأشياء، بيروت والجمال في كل شيء، ثم ستأتي مدن كثيرة عابقة بالثقافة والحوارات والجدل المعرفي، وأماسيها التي لا تنسى بسرعة.
ترافقنا في تلك السيارة إلى مطار أبوظبي، واكتمل الحوار، وودّع كل منا الآخر، وتواعدنا أن ننضج المشروع على مهل، وبفعل، وبخطوات نحو النور.
بعد أشهر تبنت أبوظبي المشروع تحت مسمى «كتاب زايد العربي»، وجعلناه عنواناً لمسيرة «كتاب في جريدة»، ساهم فيه بالحس الواعي سمو الشيخ عبد الله بن زايد وزير الإعلام والثقافة حينذاك، وجريدة الاتحاد، فكان المؤتمر التفعيلي للمشروع في فندق «ميريديان» أبوظبي، حيث ضم نخبة من المثقفين والكتاب ورؤساء تحرير الصحف العربية الشريكة في المشروع، ويومها تم إعلان قائمة الكتب التي ستنشر تباعاً أول كل شهر، وتقرع أبواب بيوت الحالمين بالقراءة المجانية والمختارة والواصلة حد عتبة الباب من مسقط لنواكشوط.
وإلى أن أتت الولادة الحقيقية.. كانت هناك عقبات، وعصيّ في العجلات، قدرنا بصبرنا، ونبل الرسالة أن نتخطاها، ونضع العربة خلف الأحصنة الجامحة بالرغبة والأمل، وإلى أن بزغ ذلك الفجر الجميل، وصافحت وجوهنا بشرى العدد الأول قبل عشرين عاماً، ساعتها مددنا الأرجل وقلنا: آن لنا أن نستريح، لأن ملايين من قرّاء العربية سيفرحون بكتاب مجاني كل شهر، وسيقرع أبوابهم، وقد يفعل شيئاً جميلاً يوماً في عقولهم، وعقول أبنائهم.
بعد ذلك.. ضمتنا مدن كثيرة مثل: بيروت والقاهرة وصنعاء والشارقة وشرم الشيخ وباريس وغرناطة، وفي كل مرّة ألتقي بصديقي شوقي عبد الأمير، نظل نتذاكر تلك التجربة الجميلة والصعبة والناجحة، والتي ولدت في تلك الظهيرة القاسية والمغبرّة، ونحن في طريقنا إلى مطار أبوظبي، بحفظ الله ورعايته.