بقلم : ناصر الظاهري
لعل من بين المشاريع الثقافية العديدة التي تبنتها أبوظبي في السنوات المنصرمة، وأتت ثمارها دونما أي تكلفة مالية تذكر، وبصدى إعلامي وأدبي وثقافي كبير، لا يتوازى والقيمة المادية المصروفة عليها، جائزة «البوكر» العربية، لأنها قامت على أساس جائزة «بوكر» الإنجليزية العريقة، للناطقين بـ«الأنجلو سكسونية»، وهي تتشابه مع جائزة «غونكور» الفرنسية، للناطقين بـ«الفرانكوفونية»، وتحظى أبوظبي كل عام بنخبة مختارة لتمضية الخلوة الإبداعية في ربوع البلاد، لمدة أسبوعين يكملون إنجاز أعمالهم الأدبية، أو ما يعرف بالورش الإبداعية، بعدها يأتي التكريم بدعوة أصحاب القائمة القصيرة، وهم ستة أدباء وأديبات ليعلن الفائز بجائزة العام، لتفتح أمامه الآفاق الإعلامية والثقافية، ولينطلق من العربية إلى رحاب اللغات العالمية الأخرى.
«البوكر» العربية في بدايتها شأنها شأن الجوائز العربية حاولوا التشكيك في نزاهتها، وتحدثوا عن لجان التحكيم، والاختيارات وغيرها من العلل العربية الذين لا يحسبون «الحكام»، ويشعرونك أنهم في صف غيرهم، وضدهم، لمجرد خسارتهم أو فشلهم، لكن الجائزة مضت مع مسير القافلة، ولم تنظر وراءها ولا للمنتقدين غير الناقدين، وتوجّت كل عام أديباً أو أديبة من مختلف أرجاء الوطن العربي، حضر المغربي والتونسي والسعودي والمصري والعراقي والكويتي وغيرهم، ولو سمعنا لأقوال المنتقصين لما خطونا خطوة للأمام، ولما كسبنا هذا الكم من الرواة العرب الجدد الذين سيثرون المكتبة العربية.
لقد قدمت جائزة «البوكر» العربية دعاية مهمة، وخالية من أي مبالغة غير الصدق للإمارات، ولأبوظبي، أكثر من أجهزتها الإعلامية، وبعض مشاريعها ذات الميزانيات الكبيرة، فمثلها استثمار في الثقافة والمعرفة، ودعم للغتنا العربية، وحضورها بين لغات العالم.
هذا التباري العربي من أجل المعرفة والعلم، ومن أجل معان خضراء جميلة في الحياة، بالتأكيد هو أفضل من التحارب في مناطق الرماد والجفاف، واحد يزرع الخير، وينمي الحقول والعقول، وآخر يورثنا الجهل، وينمي الكراهية، ويضيّع أمتنا.
وهذا العام وكعادة كل عام ستشرق عاصمتنا بستة روائيين عرب، وجدد، سيكون لهم ولحضورهم، ولتفاعلهم مع الساحة الثقافية قبل وبعد تسمية الفائز، وحفل تكريمهم، وخلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب وفعالياته، وسيعود كل إلى داره، حاملاً شيئاً من وعن المكان، شيئاً عن أبوظبي، وأشياء عن الإمارات، ومثلهم من يذكر الأمور، ويخلّد ما سمعت الأذن، ورأت العين، وعاشت الأحاسيس.
هنيئاً لجائزة «البوكر» العربية، وشكراً لأبوظبي لأنها تنبهت باكراً لمثل هذه الجائزة، ورعتها من خلال مؤسساتها، وقدمت لعالمنا العربي مسألة حضارية، وقيمة معرفية، تكتمل وتكمل منظومة الريادة، وسبر طرق التقدم والمستقبل، لقد عانت الثقافة العربية إهمالاً رسمياً بجوانبها كافة، ودجّنت مرات ومرات، وتأدلجت بتأدلج الأنظمة السياسية، غير أن «البوكر» هي إضاءة تنويرية في حياتنا العربية الجديدة.