بقلم : ناصر الظاهري
كان يتقاطر على ردهة ذاك الفندق، المنتجون، والنصابون من سنغافورة، وهونغ كونغ، والمنتفخون من أولاد الهنود اللندنيين، والمغامرون، المعتمدون على فرقة شعرهم الأسود الجانبية، والقميص الذي يفضح الصدر المشعر، والحالمون بثراء مباغت، وفاحش، حتى ولو جاء عن طريق أرملة طروب، أو عجوز متصابية تعد أيامها.
في المقابل وبطريق المصادفة رأيت مرة مالك الفندق يسحب إزاراً أبيض خفيفاً، ونعالاً جلدية رقيقة، يخال إليك أنه راهب هندي أتى لتوه من المعبد، بل كان يكاد يشبه غاندي في نحافته وطريقة لبسه، وسماره السنسكريتي الواضح، ذلك الذي تطبعه الجغرافيا كوسم يصعب أن تبرأ منه، فتعجبت كحديث نعمة منه، فلولا الاحترام الزائد، والمبالغ فيه كعادة الهنود في الترحيب بالذي يفوقهم في أي شيء، لم يكن أحد ليتعرف عليه، بل جلهم كان ينظر مستغرباً أن هذا البني آدم دخل هذا الفندق البهي خطأ، لكنه كان طبيعياً لا قرقعة تمشي قبله، ولا جلبة تتبعه أو تمشي وراءه، كان ذاك الإقطاعي الكبير يشبه ناسكاً لا يمل من الصلاة، ولا من الصبر، ويقوى على الجوع.
لقد كان يختصر ذلك الرجل التاجر الهندي التقليدي، فالمظاهر لا يمكن أن تعطي قيمة للرجل، ولا الملابس يمكن أن تقدم الرجال، فالذي يرى الهند ولا يعرفها، لا يمكن أن يقيمها أو يعطيها وزنها وثقلها، وتقدمها في الديمقراطية، وبناء المؤسسات الكبيرة التي تسيّرها، وأنها أصبحت من الدول المتقدمة على الصعد الحضارية كافة، والتي يحسب لها ألف حساب، حاضراً ومستقبلاً، وأنها ورغم نهضتها، فلا تزال العادات والتقاليد والموروثات تلقي بثقلها على كاهل الهندي، لكن لا تمنعه من الإبداع والإنجاز والابتكار.
تذكرت تاج محل والأوبراي في وقتهما الجميل، حين طرأت الأحداث الإرهابية والإجرامية في ردهاتهما قبل سنوات مضت، وتذكرت كمية الدم الإنساني المقدس الذي سال في جنباتهما، متسائلاً كم ضم هذان الفندقان من أفراح ملوكية وليالٍ أسطورية وغناء من أجل الحياة وأناشيد الأمل والسعادة وحلم بولادة قادمة أو بشارة في الطريق.
تذكرت الجلسات المسائية لشعرائنا المحليين والغاوين الذين يتبعونهم والشغوفين حد النشوة بالهند وبأشيائها الكثيرة، وكيف كانت تصلهم دلال مقندة، ومزلولة للتو من يد الزين «اللي خطّ الحناء بوصاه»، وكيف يفزّون «ليمن شافوا الغر بو شيلة منَقّدَه» أو حين يتذكرون «الشرتا وذعذاع النسيم لأن أم وجه مسفر، وهي في غاية صباها، تبسمت وبانت عن ثنايا كأنها قماش منقاي»، «أيييه.. كان زمناً جميلاً .. ووطراً ليته يعودي»، وصدقوا لي قالوا: «بمبي طماشه»!
المصدر : جريدة الاتحاد
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع