بقلم : ناصر الظاهري
لا يمكن أن يكون الإنسان «طمّة» إلا إذا سافر إلى اليابان أو ألمانيا، لأن اللغة الألمانية ليست من اللغات التي تتعلمها في خمسة أيام من دون معلم، مثلما كانت تضحك علينا دور النشر اللبنانية التجارية التي تسلق كتب اللغات سلقاً، وتجد الكثير من الطامحين المستسهلين والحافظين، غير أن اللغة الألمانية كانت حاجزاً أمامهم، والتي تحس أنك تكسّر خشباً قديماً إذا ما تحدثت بها، والتي استعصت على أصحابنا الذين يقضون كل عام ثلاثة أشهر على الأقل في معقل الألمانية ميونخ، ومنذ ما يزيد على العشر سنوات من دون فائدة تذكر، بحيث إنهم اليوم غير قادرين على تكوين جملة مفيدة بالألمانية غير كلمات متبعثرة وأكثرها من الكلمات الغش التي لا تنفع إلا في المسبة وأحوال الشارع والطريق، ولعل ما يجعل أصحابنا بعيداً عن التثقيف الألماني، وبعيداً عن اللغة، أنهم يقضون الليل بطوله في لعب الورق مع خلفان وغمران، والنسوان منذ الصبح البارد وهن يتبعن الأشياء الفاخرة في التسوق والشراء والجلوس في الحدائق والصريخ على الشغالات الفلبينيات.
منذ أن تطأ قدماك أرض مطارات ألمانيا وأنت تتعلم الصمت والصمت الكثير، ولولا تلك القهقهة التي لا تستطيع أن تكتمها حين يتحدث الألماني أمامك، فتشعر أن فمه محشو بحبة بطاطا حلوة «هندال»، أو أنه غاص بلقمة ساخنة، وإلا لما انفرجت الشفاه، ولا افتر ثغرك عن بسمة تظهر بياض سنك·
في ألمانيا إضافة إلى غربة اللغة، هناك أشياء كثيرة تجعلك تيمم وجهك شطر مدن تحبها، بمجرد أن تقضي وطرك منها، فإما هروب إلى لندن الظالمة التي تحبها أو باريس الغالية التي تعشقها، منها الرتابة العالية والانضباط العسكري القديم، بحيث لا تستطيع أن تفرّق بين سائقة الشاحنة المسترجلة وبين صاحبة المخبز العاجنة وبين فتاة المشرب الساكنة، الجميع يمشي خطوتين منضبطتين، ثم إلى الأمام سر، بحيث في ألمانيا لا تطلب الضحك والغنج، بل أقل الأشياء كأن تنادي أن يكون للكعب الأنثوي رنّة تعشقها، أو يكون للمشية بعض التكسر والانطعاج الأنثوي·
الكل يذهب إلى ألمانيا، إما جريحاً أو مريضاً يتعالج أو راغباً في شراء حديد مسلّح أو رافعات تحمل البلاء أو سعيداً بما أعطاه الله ليمضي أيام الاستجمام وحيداً، بعيداً، عن مشاكل الناس وهمومهم.
لقد أحصيت زياراتي العديدة إلى ألمانيا فوجدت أنها جميعها مرتبطة بمعارض ومؤتمرات، ولولا تلك الفسحة الجميلة التي نستغلها في الآحاد وبين الزيارات لزيارة معالمها التاريخية والثقافية والحضارية لكانت ألمانيا عبارة عن شركة حديد وصلب، ومحطات قطار، ومعارض كبرى لمنتجات كبرى، ولو بذل العرب ووفروا جهودهم كلها وتفرغوا منذ أيام الجاهلية الأولى حتى آخر أيام السلطان عبد الحميد العثماني، لما عملوا نصف ما عمله الألمان بعد خروجهم من الحرب العالمية الثانية منهزمين