بقلم - ناصر الظاهري
من بين تلك الأشياء التي تناديك من بعيد في تجوالك في المدن الكثيرة، ملقية عليك شيئاً من ثقل محبتها، والشغف بمشاهدتها، وخلق ذاك الحوار بينك وبينها.. مثل موسيقيّ يبيع النغم على زاوية من الطريق، مثل صبية تبيع الورد والبسمات وهي تذرع الأرصفة، مثل رسام سكّير يفترش لوحاته، مثل مطعم عائلي صغير يكفي لعاشقين، هناك غيرها التي تحرمك من العبور:
- ساعات المدن، تلك الحارسات الدهريات للزمن، علاماتها البارزة، هي تاريخ معلق على الجدران، وشاهد على أحداث المكان، رأت المدن في حزنها وحربها وفرحها، وحين يسكنها الذعر، ويتسيد الظلم، أغرمت بها منذ الصغر، حين رأيت ساعة «بغ بن» لأول مرة، بحجمها الشيطاني، وأصبحت محط عدستي أينما صادفتها أو قصدتها عنوة، خلف تلك الساعات، هناك حكايات تسرد، وهناك ذكريات منها حملها المسافرون الزائرون في حقائبهم، وفي خلفيات صورهم.
- يسرقني منظر الرجل العجوز بلحيته البيضاء المرسلة على الصدر، ومشهد العصا المرتجفة في يده، والتي تقود خطواته، فأتبعه بشغف المتأمل، وفرح الحفيد، ويكون بودي لو أتحاور معه، غير أن ما يرجعني كثيراً، الخوف أن أجرح خصوصيته الهرمة، ووتيرة إيقاعه الذاهب في السكينة.
- العتبات الباردة للأبواب الخشبية في القرى الجبلية أو تلك المدن المطلة ببهجة على البحر، وصفّ من الجارات، قائمات وقعوداً، وثرثرات لا تنتهي، عادة ما تكون مكررة أو قصصاً متشابهة أو منسية نهاياتها، لا يتركن ذلك المشهد غير الخالي من نميمة إلا إن غابت الشمس أو شعرن بلسعة برد لا تتحمله عظامهن الهشة.
- النافذة الخشبية الزرقاء المواربة على فتاة تتكسل في «بيجامتها» القطنية، والتي تحرسها أصص زهر وورود، وثَمّ عصفور محب اعتاد أن يمكث قليلاً عند محبس الماء، يسلم ويطمئن ويطير، تاركاً غصن الوردة يرقص مودعاً، خطوات مارّة تسمع على الرصيف، وخيط من الحكايات غير المنتهية يسحبه معهم المارّون، من تلك النافذة المواربة، تتمنى تلك الفتاة التي كانت تتكسل في «بيجامتها» القطنية أن يمر فارس على حصانه الأبيض بجوارها، ويقطف وردة، ولا يذهب بعيداً عن نافذتها.
- يستوقفني الحانوت الذي له رائحة القديم، دائماً ما يخبئ شيئاً جميلاً، يمكن للمسافر أن يحمله في حقائبه، خاتماً بحجر وحرف صوفي «هووو»، كتاباً نادراً في ورقه، سبحة من عجينة أو كهرمان، متعلقات عزيزة تخلى عنها أصحابها في وقت الرحيل أو العوز، مثل سجادة عجمية، وربما تحظى بذلك البائع الذي هرم داخل دكانه وحده، ولديه ما يقوله، ويدهشك، ويحفر في ذاكرتك.
- تجاعيد الوجوه الإنسانية كأرض متشققة من حرقة العطش، وقسوة مجالدة الحياة، وخطوط الزمن الهارب، تجمدني تلك الأشياء، صانعة تلك الرجفة والرهبة أمام هذا الزمن المنفلت، والذي كان فراغاً، فامتلأ بالإنسان.