بقلم - ناصر الظاهري
- الفرق بين موسكو قبل ثلاثين سنة حيث الزيارة الأولى، وموسكو اليوم، كالفرق بين تلك المحاسبة المكتنزة التي مكانها الحقل، والتي رأيتها في المتجر الكبير تحسب على قطعة خشب وخرز ملون مشترياتك الكثيرة التي لن تتعدى ألف روبل، وبين شابة من وقت وزمن، خرجت من إطار لوحة ذهبية، تاركة ألوانها تناديها، وجلست تعزف أرقام مشترياتك القليلة اليوم، والتي تصل لخمسين ألف روبل، الفرق بين السنين أن موسكو تخلّت عن تلك السحابة الكئيبة التي تظلل سماءها، اليوم موسكو مبتهجة، كعجوز لا يعيبها ثقل عمرها، تضحك بصوت عال وسط الشارع، ولا تبالي.
- بعض المدن تشعرك بجبروت بنائها، وعظمة جدرانها، واتساعها المرعب، موسكو هي هكذا، لو تضربها مدافع طوال الليل، فهذا لا يعني لموسكو الصلبة أي شيء، هو جزء من غبار علق بأرديتها، وستنفضه قريباً، كم هي تختلف عن المدن الهشة التي لو صببت عليها قدراً من ماء يغلي، لشكت من الهشاشة، ومن جزعها، ومن خوفها من حالها على حالها.
- حين أذهب مع الأصدقاء بأعمارهم المختلفة لمدن العالم، وأقول لهم إنني زرت هذه قبل ثلاثين سنة أو تلك قبل ربع قرن، تجد أعينهم تطفر من محاجرها معتقدين أنني «أهلّه عليهم من هالمريس»، وأن هذه الملابس الفرحة التي أتجمل بها، لا تناسب عمري الحجري، خاصة أن بعضهم من الصغار الذين لم يولدوا حين رأيت الجزائر أو المغرب أو إسبانيا أو الاتحاد السوفييتي لأول مرة، واليوم بعضهم أصبح جداً، وقد هَرّ الشعر أو مشطه الشيب، ويبدون أكبر مني، وغالباً لا يصدقون «خريطي»، فلا أجد غير دمعة الشكر، وصدق الطُهر، وذلك الرضا الذي لا يعرف إلا الحب والخير.
- في موسكو وجدت صديقاً عزيزاً، وأخاً غالياً، كان زميل مقاعد الصفوف الابتدائية، فرقتنا الدنيا، واتساع المدن، واليوم تجمعنا موسكو، سعادة السفير معضد حارب مغير الخييلي، بعض المدن لا تقبل إلا أن تهبك فرحة تحملها عائداً في حقائب سفرك.
- بعض المدن لديها أسرارها الكبيرة التي لا تبوح بها لأحد، ولا تضيق بها صدور نُبلاء الرجال، لا يعرفها إلا قلة مختارة ممن رضوا بتلك الوصايا التي تنوء بها الجبال، هم كحرّاس من غيم وظلال، موسكو لديها من تلك الأسرار الكبيرة والكثيرة، ولديها من أولئك الحراس الملائكيين الذين عادة ما يذهبون لقبورهم محملين بها أو يحملونها كأمانة، تشبه شرف الأمهات والأوطان.