بقلم - ناصر الظاهري
من الأشياء التي بقيت أتتبعها في الأسفار، وتستوقفني غصباً عني في المدن الكثيرة، مشهد العصا في اليد، وخاصة عصا الإنسان الكبير أو عصا الرجل الأنيق «الجنتلمان»، حتى غدت كاميرتي لا تخطئ أي وضعية للعصا، والعين تراها من بعيد، وتميزها، وتفرحها.
ولعل من أقدم الأشياء تعلقا بالإنسان، ومواكبة لمسيرته منذ الأزل، هي العصا، ولا نستطيع أن نخط لتاريخ العصا عبر الدهور، ولا نعرف على وجه الدقة كيف خطرت للإنسان الأول أن يتخذها رفيقة دربه، وعكازة يمينه، وسلاحه يشهرها في وجه العدو، والحيوان القاتل، ويهش بها على غنمه، وله فيها مآرب أخرى، ولعل مقولة إن الإنسان يمشي في بدء حياته على أربع، ثم على اثنتين، ثم على ثلاث، تقديراً لتلك العصا التي كانت تتبع صاحبها إلى القبر حيث تدفن معه، ضمن بقية أشيائه الغالية والعزيزة للحياة الأخرى.
واشتهرت في التاريخ عصا موسى التي شقّ بها البحر، ولقفت ما صنع سحرة فرعون من أفاع بطريقة كيماوية، وعصا أو منسأة سليمان التي بقي متوكئا عليها، ولم يعرف الناس بموته إلا عن طريق دَابَّة الأرض أو الأرضة التي أكلت منسأته، واتخذ الأنبياء والرسل والشعراء والكهان العصا الخشبية من أفرع الشجر وجذوعه، وكانت ترافقهم في الخِطبَة وأثناء الخطابة، واتخذها الملوك مصنوعة من العاج والابنوس ومن الذهب والفضة، ومرصعة بالجواهر، سميت بالصولجان أو عصا العرش، وكانت رفيقة النساك والعباد والمتصوفة والدراويش، واتخذها العرب كعنوان للرجولة، ووقروا قيمتها فالحر تكفيه عنها الإشارة، ولغيره قرع العصا، والعصا لمن عصا، وفي أمثالنا المحلية «نحن عصاك اللي ما تعصاك»، وفي الفصحى نقول: شق عصا الطاعة، وفرَّق الجماعة، ونقول: ألقى عصا الترحال، أي استقر به النوى، وأصبحت للعصا مسميات كثيرة، بحسب حجمها، ولونها، ونوعيتها، والغرض الذي اتخذت لأجله، منها، المقرعة، والمشعاب، والقَبّ، والعجويّة، والقضيب، والخيزرانه، والعكّاز، والمقذعة، والباكوره، والمطرق، ودرّة الخليفة عمر بن الخطاب مشهورة، وكانت عندنا في قديم الزمن تتخذ من فرع شجر الرمان، ومن الخيزران، ومن شجر الليمون، وكانت تحنى وتعكف، والبعض كان يصبغها بالورس أو الحناء، وعرفت عندنا عصا «الهناوية» وعصا «الغافرية».
والعصا رفيقة الأعمى والضرير، وحتى حين تم اختراع عصا إلكترونية تدله على الطريق،
وعصا الشرطة معروفة، والأشهر عصا الشرطة البريطانية، والتي كانت تغني عن المسدس، وهناك عصا المعلم والمطوع الطويلة التي تصل آخر الطلبة الكسالى، وعصا الراعي، وعصا التبختر عند كبار الضباط في الجيش والجنرالات، وزعماء الانقلابات العسكرية، وعصا المايسترو الرفيعة التي تضبط إيقاع فرقة من مائتي عازف، وعصا الساحر، والعصا غالبا للرجل، ونادرا ما تستعملها المرأة، لأن لسانها أطول، ودمعها أقوى.. وغداً نكمل