بقلم - ناصر الظاهري
عقدنا العزم مرة على أن نذهب إلى بلاد التتار أو «تتارستان»، تلك البلاد البعيدة في الجغرافيا، الحاضرة بشدة في التاريخ، خاصة أن التاريخ لا يعطي دائماً صورة واضحة عن تلك الشعوب التي غزت الشرق، واستولت على كل البلدان التي تقع في طريق زحفها الهمجي، وامتدوا مشرّقين مغرّبين، في روسيا وكل عواصم أوروبا الشرقية، ووصلوا ألمانيا، وعاثوا في بغداد شراً، حتى ازرق نهر دجلة من الأحبار والقرطاس، ثم ارتدوا من غزوهم، بعد هزيمتهم في معركة «عين جالوت» على يد قطز وبيبرس وجيوش المماليك، مسلمين أسسوا دولة متحضرة في الهند وغيرها.
هذه صورة التاريخ وما خطّه المؤرخون، وجاءت المسلسلات التاريخية العربية التي كانت تقدم أعمالاً درامية من دون دراسة عميقة لكل تفاصيل الوقت والناس والأمكنة، خاصة مسلسلات رمضان، فقدمت لنا التتار والمغول من دون أن تفرّق بينهما أو على الأقل تعطينا لماذا المسميان، وأين يلتقيان، وأين يختلفان؟ هذه الأفلام والمسلسلات العربية الهشة خلقت لنا هيئات لشعوب مختلفة مبتكرة، وألصقتها بالذاكرة الطرية للناس، فالتتاري دوماً يظهر مكتنز الجثة، قصير القامة، هناك «علعول» من الشعر طويل في منتصف رأسه، وشارباه المقسومان على طرفي فمه فقط، بحيث إذا ما عطس يمكن أن يتطايرا منه، وعينا الواحد منهم في قمة رأسه، يرتدون الجلود، وزرود الحديد، وأنهم أناس يتقصدون الشر، ويمكن أن يفتكوا بالواحد في أي لحظة، فذهبنا لديارهم متحزمين، خوفاً من غدر، وحماية للظهر، وما أن وطئنا سهولهم ومروجهم الخضراء، ورأينا ما يسر العين، ويبرّد الخاطر، ويجعل القلب كطائر صغير أبيض يرفرف بالفرح، وخالفتنا ديارهم التي ليست خياما من صوف، مرتكزة في صحراء جوفاء، فهم من سكان الطين والخشب والمدر، ومن تحتهم تجري أنهار، ولهم من دنياهم حدائق من عنب وفاكهة وأبّ، وأنهم وضّاحو الوجوه، مستبشرون بالغريب، تغلب عليهم الحُمرة، وأجسادهم كالرماح، وأن الجمال يستوطن أراضيهم، إن مرّت الأم أمامك فلا تقدر أن تفرّق بينها وبين ابنتها، وأيهما رضعت حولين كاملين، ثمة صحة وعافية ونشاط ملحوظ على الناس، لا يعرفون التعب، ولا يكترثون بالكسل، فاعتقدنا في بداية الأمر أن هناك خطأ في التاريخ أو أن النسل القديم انقطع في السهوب وبراري الغزوات والحمى أو أن ديموغرافية هذا الشعب تغيرت بفضل الثورة البلشفية، وحكم الشيوعية قرابة سبعين سنة، لم نكن مصدقين وقتها بعد التماس الحقيقي مع الناس أننا في أرض التتار، نعيث الديار، ونقطع الفيافي فيها والقفار، وقد طاب المقام بهم، وحلّت الطمأنينة بيننا وبينهم، وأنهم مسلمون، مسالمون، من أرق شعوب الأرض وخيارهم.. وغداً نكمل