بقلم - ناصر الظاهري
- .. آه يا لها من صباحات لا تنسى، صباحات بيروت التي ما إن تتعافى، حتى يأتي من يرميها بشرر، صباحات من ود وورد ومن حب وقُبَل، صباحات لو بقيت تلك الصباحات:
- صباح الصديقة التي ما برحت تشتكي من ضيق النَفَس، ومن زحمة بيروت، و«عجأة» شارع الحمرا، ومن حر الصيف، ورطوبة بحر بيروت، ومن «هالمواطن اللي غير شكل»، تظل تنفخ بالونات في الهواء لترتاح من ضيق المكاتب، ويعتدل إيقاع يومها، باتجاه بيروت التي تحب، وقهوتها المفضلة، وترانيم فيروز، متمنية ليت يومها يطول بلا ضجيج، ولا ضجر.
- صباح الضيق حين يعرف الأصحاب أنك مودع بيروت، وصباح من فرح وألق حين يعلمون أن وجهتك من بيروت باريس، يحمّلونك قهوة طازجة إلى صديق يحنّ لقهوة أمه أو بطحة من عنبهم إلى مهاجر متعب ويريد أن يجرّ «العتابا» في شرفته الفقيرة مساء، يحمّلونك حلوى ومكسرات من نكهة بيروت، متوقعين أن ترد عطوراً وملابس جديدة، وصرعة من صرعات باريس التي «هي غير شكل»، حتى إن لوقع باريس في نفس اللبناني مساحة من الآه والفرح، وغوايات شتى.
- صباح الوصايا البريئة كرائحة زهرة جبلية، تلك التي تطلب منك أن تهتم بـ«نتالي» التي في سنتها الأولى في باريس، وبـ«باسكال» التي تركت بيروت في آخر مرة غاضبة من خطيبها وأهلها، وألا تترك «غادة» وحدها في باريس، «أبقى طلّ عليها» فتفرد جناحين من ود، ومن حب لكل الشاكيات الباكيات، المتضررات، الغاضبات، اللاعنات سماء باريس، فيكون القلب لهن متسعاً، والبيت المطل على نهر السين ملجأ ومتكأ، تهتم بـ«نتالي» وتأخذ بالك من «باسكال» ولا تترك «غادة» وحدها في باريس، تمنيت لو بقيت في تلك المدينة الجميلة باريس، سفيراً فوق العادة لكل الجاليات البعيدة والقريبة، مستنداً على نهر من الخير، تمد جناحين من ود صوفي، وتجل معرفي، واحداً نحو قمم الأطلس شمالاً، وآخر صوب جبل لبنان، تمارس إنسانية تحبها، وتدخل كل ريح السعادة لقلبك الأخضر دوماً، لا تطيق دمعة من عين كسيرة أو ترى تهدلاً في كتف أنثى لا يليق بها الخذلان، تمنيت لو ظللت مثل «شيخ الحومة» أو «عمدة المدينة»، يشتط إن كحّت ليلى أو شكت من الأوجاع أخواتها لتتداعى الروح والجسد عليهن بالسهر والحمى.
- لكن اليوم.. وحين تتذكر كل تلك الأشياء الجميلة بتفاصيل ناسها، وبطيبة القلوب، وعفوية اللقاءات، أو تَرِد هي على الرأس هكذا فجأة، تتذكر صبح بيروت الذي وصلته لثاني مرة فجأة في نهاية الحرب، وكنت لا تعرف أحداً، غير الحب الذي يملأ قلبك، وتلك الدهشة التي تسيّر خطواتك، ورسائل معطرة يأتي بها بريد متكاسل، أو تأتي مندسة في كتاب حمله صديق من بيروت ولا يدري عنها، وعن عطرها، في تلك الرحلة الثانية تحولت أشياء بيروت المتداعية إلى شيء جميل مسكنه الصدر، ورغم الغبار، وتلك الثقوب التي في النفوس وفي الجدران، لكنك تذكرت بيروت في عمرها الفتي حين تكحلت بها عيناك الصغيرتان مرة، ولم تقدر أن تنساها، ولا هي غادرت ذاكرتك أبداً!