بقلم - ناصر الظاهري
هنا.. اليوم سفر مع طاولة الأصدقاء الصغيرة، والتي تنتقل معنا من مدينة إلى أخرى، قد تتغير الوجوه، لكن الطاولة هي الطاولة بمساحتها الصغيرة، وحيزها الذي لا يزيد على خمسة إلى أربعة أصدقاء، وعابرين، نتحلق حولها في حِلّ، وسفر، هي محاطة بالأسرار، وبأمور حميمية، وبضحكات لا يشبع منها، عادة ما تحتل ركناً منفصلاً، أو زاوية محرضة على المشاهدة والتأمل، لا يسمح عادة أن تكبر، لأنها مثل العمر، كلما كبر الإنسان قل أصدقاؤه، ومن يفقد منهم، لا يعوض بأحد مكانه، طاولة صغيرة لا يسمح لغير الأصدقاء أن يستدفئوا بكراسيها ولا يمكن لغيرهم أن يغتسلوا من أوجاعهم عندها أو يحمّلوها شيئاً من ثقل، ووزر ما يحملون، وكم هي صغيرة.. كم هي كاتمة الأسرار، وباعثة على التطهر، ومحرضة على الحياة الجميلة.. الملونة.
لا يستطيع الواحد منا أن يحصي الجالسين حولها، لكنه يتذكرهم، ويمكن أن يتذكر مدة مكوثهم، وأي الأصدقاء كانوا، ولمَ كانوا في أوقات بعينها؟ ولمَ هربوا فجأة؟.. بعضهم بهرمهم، وبعضهم بهزائمهم! وهي ما عادت تسأل كثيراً عنهم.
- واحد هو صديق المدن، صديق وجع الرأس، صديق الأسفار والكتب والنبش في النفس الإنسانية، صديق فرح الأماسي كيفما جاءت هي هكذا..
- واحد كان يأتيها متأخراً دائماً، غير أنها تظل له، فقد يفاجئها بآخر أخباره الخارجة من وراء الكواليس، كان يفرح بها حتى جاء يوم وعدها كطاولة القمار، عليه أن يربح منها كل يوم.
- واحد كان كضيف، وظل يتعامل معها كضيف، وحين غاب لم تفتقده طاولتنا إلا كضيف أحسنت وفادته، ولم يودعها بالسلام.
- واحد كان يأتي ليفرح بصحونها، فقد كانت بالنسبة له «بوفيه مجاني» يلتقط أفكاراً كثيرة من رؤوس قليلة، ولا نعرف ماذا يظل في رأسه هو؟
- واحد كانت ركبته بركبتك، وكتفه يحاذي كتفك، وأحياناً تختلط أيديكما في جيب واحد، ولا تعرفان جيب من منكما، ذهب وظل كرسيه فارغاً إلا في رأسك.
- واحد كان يحب الطاولة، ولكنه يجفل منها، ويغضب منها، ويزعل كثيراً من أحاديثها، ويتبرم بمن حولها ومنها، ولكنه لا ينبسط إلا أن يكون جزءاً منها.
- واحد كانت ترهبه أحاديثها، ويخاف أن تنفتح جهاتها، يأتيها كشاعر متمرد، ويذهب كموظف مرتجف، حينما يتذكرها يخاف أن تغدر به وبرزقه أو يمكن أن توقظ في نفسه ذاك الشاعر المتمرد.
- واحد كان يحوم حولها، ويلتقط ما يريد لأذنيه أن تسمعه، وحين يعييه استراق السمع يتمنى لو كان من المتحولقين أو من المريدين، لأنها كانت تعطي لرأسه مساحة ومدى، وأفقاً كان يسميه مختلفاً، ولا يجده إلا إذا كان حاضراً، ويطوف حولها.. وغداً نكمل.