بقلم - ناصر الظاهري
رحلة هونج كونج الثانية، رأيت فيها وجهها الزجاجي، ولمعان واجهاتها التجارية، كانت تجمعني بثلاثة أشخاص، واحد «فروق» خوّاف، وواحد «خكاك» (مدّعي)، وواحد «برصيص» بخيل مغتر، أما الأول فيخاف من ظلته، والثاني يوهم الآخرين بعكس ما يكون حاله عليه، أما الثالث فهو بخيل، ويناجي الفلس قبل أن يودعه بدموع غزار، وكل واحد منّا أخذ نصيبه من طبيعته، وظلت تلك الطائرة تتلاعب فينا، وتخض أكبادنا، حيث مرت الرحلة على «الفروق» كدهر لا ينقضي، حاولنا أن نقنعه في لحظة كنا نرى فيها عينيه تبرق ثم تهمد، أن المطبات الهوائية مسألة عادية جداً أثناء الطيران، وقبل أن نختم تلك الجملة هوت بنا الطائرة لقرار سحيق، فخرج صوته مبحوحاً، ولو قدر ساعتها أن يجاري النساء والفتيات في صريخهن لفعل، كان يلجأ للدعاء مرة، ومرة يخرج عن ملة الدين بالدعاء علينا، ومرات يكيل التهم على الطيار، ومساعده الذي لا يفعل شيئاً عادة، وإذا أردنا أن نزيد من غليانه قلنا له: إن هونج كونج محاطة بمياه محيطات يغطيها الضباب، وهو لا يجيد السباحة إلا في ماء الشريعة شبه الجاري، فيسلم أن نهايته قد قربت، ويكاد أن يوصي بمكان الدفن، فنرد عليه أن هونج كونج مساحتها محدودة جداً، ولا يدفنون فيها ميتاً، بل يشبّون تحته جهنم الحمراء حتى يصبح رماداً.
أما «الخكاك» فكان يتصنع الشجاعة، لكن في هبوط الطائرة والاهتزازات العنيفة كان يعاني وبصمت، والبسمة كانت تخرج مُرّة، والضحكة متقطعة ولا تبشر عنده بخير، وفي المدينة وقبل أن يأوي إلى سريره كان يسرد علينا بطولات النهار، وشجاعة آخر الليل، وينسى أنه كان ملازماً لنا في التجوال، ومرة اتفقنا أن نغيبه، ونتوارى عن أنظاره في غفلة منه، فتجمد مكانه، وظل يتلفت، ونسى الجمل الإنجليزية المفيدة، وخجل أن يحادث المارة من الرجال، أما النساء فيغص لمرآهن، وتظهر منه الكلمات مع تأتأة، وحين يتخلص من الموقف النسائي، تسمع منه أجمل الحكايات بطلاقة لسان، وزهو فحولي، ظل صاحبنا كالمصاب بـ«حكر.. بقر» خائفاً أن يتقدم خطوة.
أما «البرصيص» والذي كان أكله مثل النساك، أو كالذي ينام على الطوى كما يقول العرب، فبعد جولاتنا الأولى في المدينة، حلفنا له بأيمان لا يساورها الشك أننا كنا ضحية سرقة وابتزاز، والآن لا نقود ولا «كروت»، ورادّين الشأن في الله ثم فيه، فـ«يورط» ورقصت تفاحة آدم في «يرعبته» وقال: «خيبة.. ياك الموت يا تارك الصلاة، أنا فلوسي على قدي، وهبابها تكفيني، وأنتم واحد «فروق» ولا يطرد خوفه إلا الأكل، والثاني «خكاك» يمكن يعزم الشارع على حساب غيره، وأنا تعرفوني أصوم الاثنين والخميس وناذر من البلاد إن بلغت هالديار أكمل الأسبوع صيام الشكر»، أما الرابع فتعرفونه جيداً يظل يتفرج، ثم يصبح فجأة أباً للأيتام!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن صحيفة الأتحاد