بقلم - ناصر الظاهري
كلما تذكرت أصدقاء الحارة، ومدرسة القرآن عند المطوعة، ومدرسة النهيانية القديمة، ضحكت من قلبي وقلت: هل يتساوى ذاك الصديق الأغبر الذي لعب معك في سكيك الحارة، وركضتما سوياً حافيين مرة، ومرة تحت المطر عاريين، يوصل لبيتكم ما ترسله أمه لكم، لتتطاعموا من غدائها، فتنقص «المقفلة» لقمة هَفّها على عجل، وكذلك تفعل أنت رداً عليه، كيلاً بكيل، دربحتما «الطواق» معاً، وترادفتما على الدراجة الهوائية المستأجرة من عند «غلوم» معاً، وسرقتما من «الهمباه» من نخل المعمورة معاً، وتلصصتما بعدما كبرتما قليلاً سوية على من كانت تنضح الماء عليها في «زويتها»، وهربتما بضحكتكما، كنت تدافع عنه، ولو كان مخطئاً، وكان هو يأخذ بثأرك ممن ضربك، تقاتلان معاً ضد الآخر، كمبدأ جاهلي تسلل لكما عبر إنزيمات الصحراء، وما توجب من نواميس، «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، ولكنكما تتعاركان مع بعضكما بعضاً حين تقفلان عائدين إلى البيت، تتستر عليه إن فعل شيئاً يغيظ الأهل، وربما تتحملان العقاب سوية من أبيك أو أبيه، لا فرق، وحين تَصرّ لك أمك شيئاً من طعام أو عملة معدنية، لا تنساه هي إن كان واقفاً ينتظرك عند الباب، وأمه لا تنساك إن كان هناك خير، فهو لك وله، درجتما نحو العمر والبلوغ معاً، لا تفترقان، وإن زعل أحد من الآخر، تظلان تختلقان الأعذار، وتأتيان بالحركات المضحكة لكي يبتسم، ويبتسم الآخر، وتبدآن بالكلام من نهاية الجملة، وتنسيان الزعل، والتخاصم بفرك أصبعي الخنصر؟ هل يتساوى ذاك الصديق، وإن تغير الآن، وسارت به الحياة في منعرجاتها، وتكادان لا تلتقيان إلا في عرس أو عزاء، وربما لا يعرف أولاده أولادك، وربما إن اجتمعتما لا يدور حديثكما إلا عن فترات الطفولة المنقطعة، ولا حديث عن العشرين أو الثلاثين سنة التي مضت، والتي شهدت أحداثاً كثيرة، ليس فيها حدث يضمك مع صديقك القديم؟ هل يتساوى صديقك أبو الوجه الأغبر مع أصدقاء الوقت، أصدقاء الرقمنة والمنصات الافتراضية «الفيس بوك» و«التويتر» والرسائل الإلكترونية، من ذوي الوجوه «الديجيتال»؟
تلك الوجوه الرقمية، بالتأكيد لن تفزع لجار، إن «إنخَاق» عليه سقفه أو دخلت الشعبة لبيته، ولن تأخذها النخوة إن سمعت ناقع الصائح، ولن تظل تبكي العجوز «عائشة بنت هلال» التي احترق بيتها وبقرتها، ولن تجدها حين تكون هناك دمعة على عتبة الدار أو ثمة ضحكة تَخبَؤها لتشارك بها صديقاً داخل الدار، بالكاد يعرفون باب بيتك، ونادراً ما يقرعونه طلباً للسلام والاطمئنان، وقولة مرحباً، هم وجوه في الظلمة تلمع وتلتمع، إذا ما كنت أمام جهازك، وكانت شاشتك تومض بحرارة البطارية، قد تتواصلون يومياً، لكنكم بعيدون في واقع الحياة، ليس ثَمّ شيء بينكم هو من دفء الإنسان وأنفاسه وحرارة دمه، ورائحة عرقه، أو لمعة ملوحة البحر الملتصقة بظهره.
غاب الصديق ذو الوجه الأغبر، والرجل الحافية، والذي تسمع نشيجه في الشتاءات الباردة، أو وأنتما تلتقطان النبق في فجر العين النديّ، تشعر بتقفقف أسنانه، ورعدة جسده في الطابور المدرسي، غاب ذاك الصديق الأغبر الوجه، وحضر الصديق الرقمي بوجهه الديجيتال، غير أن العناق معه مستحيل، ورؤية الدمعة الخارجة بفرحها أو حزنها غير ممكنة، حتى تاريخ ميلادك يذكّره به جهازه الذي يضم أصدقاء كثراً، أنت بينهم رقمٌ، خانة، لا يحنون لصورتك، ولا يعرفون تفاصيل وجهك، لكنهم قد يعرفون كم «بيكسيل» هي أجزاء صورتك في جهازهم، هم أصدقاء كثر.. كثر، لكن وجوههم ديجيتال، ولا تشعر أنك تريد يوماً أن «توايههم» بالخشم، حتى لو غابت الجائحة، وعدنا لطقوسنا الاجتماعية القديمة!