بقلم - ناصر الظاهري
من الأمور التي لا أحبذها في الحياة، وأتجنبها بكل السبل، تلبية عزيمة بخيل، والتي يصر عليها من جانبه بكل ثقة وعزيمة، وأنت أعرف بحاله ومآله، تحاول ما استطعت أن تحلف عليه أن لا يقيم مأدبة، وفنجان القهوة أفضل وأسرع وأخف، لكنه يلح، والإلحاح هنا من باب نشدان المنفعة، وليس لأن طبيعته تغيرت، وتظل تتنازل من الذبيحة السمينة إلى الشاة العجفاء الهزيلة، ثم تتنازل حتى تتوصل معه في نقطة التقاء أن تكون العزيمة على دجاجة، وهنا لن يتسلف لك من الكلمات الجاهزة: «ترى هذا ليس من قدرك، لكن إصرارك أخجلني» فتؤكد له بجملة فيها إطراء لجزيل كرمه، لكن المسألة لن تنتهي عند الاتفاق على دجاجة، لأنه مهما أبدى من نيات صادقة تظل تشك، وتخلق ذلك الحوار الداخلي، خائفاً من أن يشتري لك دجاجة «خيبر» مثلجة منتهية الصلاحية لتوفير دريهمات أو يشتري لك دجاجة ماكينة ظلت متمسكة بيديها ورجليها بذلك «السيخ» حتى بردت، وسيعاود تسخينها، وسيظل يحلف عليك أن تأكل منها، وعينه على القطعة السمينة المتبقية فيها، وربما ظل يعدد لك مزايا اللحم الأبيض ومنافعه مقارنة باللحم الأحمر، وأن دجاجته متربية على العلف الطبيعي في مزارع الريف الفرنسي، وتخاف وأنت تأكل بحضرة ذاك البخيل أن «ينضلك بعين» فيصيبك تلبك معوي أو يحسب سريان اللقمة في المصرط، فتغص بها فجأة أو يظل يحسب عليك حركة يد الموسيقية السابعة، والتي تجيدها مثل «مايسترو» لا يحب أن يتعب، متوقعاً من جنابك أن تترك ثلاثة أرباع الدجاجة أو نصفها على الأقل، ولا تفعل فعلة «أبو العوس» الثعلب فرحاً بالدجاجة وريشها، لذلك كثيراً ما آخذها من أولها وأعتذر بشدة من البخيل، وخاصة إذا كان بخيلاً وضعيفاً في الوقت نفسه.
من بين تلك العزائم التي أكدت لي نظريتي في البخيل الضعيف، دعوة من زميل في منتصف التسعينيات في فرنسا، ظل يلح ويحلف، ويؤكد ويلوم حتى بلغت درجة الإحراج، فلبيت دعوته، وكنت أعتقد أنه سيعزمني في مطعم في شارع «الشانزليزيه»، وإلا تنصلت، ولو أدت إلى القطيعة، المهم تورطت يوم العزيمة لأنه أرسل لي عنوانه، وإذا به في آخر ضواحي باريس، وأنا أسكن في قلبها، يعني مسافة ساعة وربع بالمترو السريع تحت الأرض، وبالقطار العادي قرابة الساعتين إلا ربع، بدون التحويلات بين المحطات والقطارات، يعني مشقة ما بعدها مشقة، ولو كانت عزيمته «لحم غزلان شريح» لتريثت أيضاً، بالطبع مسألة أن تركب سيارتك في الليل وفي باريس، وتظل تهوم في المناطق النائية والصناعية، وصعوبة المواقف أمر غير وارد، وكدت أعتذر غير أنه الخجل الذي كثيراً ما كنت أدفع ثمنه باستمرار، المهم خشيت من لبس «الجينز والملابس الكاجوال»، لئلا أحرج أمام الضيف أو يمنعني المطعم من الدخول، فتزينت ببدلة ومنديل حريري شغل باريس والليل والمطاعم الراقية، لكني واجهت مشكلة الركوب في القطار الأرضي بهذه الأناقة التقليدية الزائفة صناعة تايوان، لأن لصوص القطارات التحتية لا يميزون كثيراً بين الماركات، وقبل أن أركب في المحطة خطرت لي فكرة، لمَ لا أذهب إلى لندن أتعشى وانبسط وأنام للغد، وبعد تناول الفطور الإنجليزي التقليدي أعود ناكفاً لباريس، لكن وسواس النفس أنبني وقال: ربما الرجل ذابح ذبيحة.. عيب، وغداً نكمل